بلغة صارمة وأحكام صريحة، ينطلق الناقد الدكتور جمعان عبدالكريم في كتابه الجديد "الثقافة السعودية .. مقاربات في تأريخ الأدب وتحليل الخطاب" من زاوية نقض بعض الطروحات الثقافية التي عرفتها الساحة المحلية منذ عقود سواء في الكتابات النقدية والتأريخية أو المناهج الدراسية مثل قضية "رواد الأدب في المملكة". وقبل أن يدلف في تلك المنطقة الشائكة يمهد في كتابه الذي صدر مؤخرا عن دار "طوى" ويباع حاليا في معرض الرياض الدولي للكتاب، يمهد بالحديث عن "التخطيط للثقافة" حيث يرى أنه (من أسوأ أنواع التخطيط لأنه لا يأبه بحريات كثيرة منها حرية التعبير وحرية التفكير والاختيار، اللواتي أصبحن شرطا ضروريا لأي فعل ثقافي أو علمي أو إبداعي ناهيك عن كونها مؤشرات للكرامة الإنسانية). أما لب الكتاب فهو قضية ريادة أدباء الحجاز ، يقول (تقرأ في أدب الحجازيين نثرا وشعرا، فلا تكاد تجد شخصية واحدة تملك موهبة قوية وإبداعا قويا، وقد بالغ الحجازيون في تقدير أو تضخيم المنجز الإبداعي لآبائهم كجزء من نسق المبالغة في النموذج المصنوع). ويضيف ( وقد انطلت المبالغة في تقدير ما قام به الحجازيون من نهضة أدبية حتى على بعض المتابعين لتأريخ الأدب دون وزن حقيقي لقيمة الأدب من الناحية الموضوعاتية والأسلوبية). ويتساءل: متى يطلق لقب "رائد" وهل صار هذا اللقب مجانا ؟.. ويجيب على نفسه (أقول هذا عن الريادة لأنني رأيت من يتخذ هذا المفهوم لا كمنطلق أو محدد لتطور المجال وتجاوز الريادة ذاتها، ولكن لتقديس ومبالغة في إعلاء من يضعهم روادا، وهضما وتحقيرا لكن منجز ظهر بعدهم.

ثم يستشهد بكتاب حسين بافقيه (ذاكرة الرواق وحلم المطبعة)، حيث يراه عبدالكريم " استمرار لتسويق تلك الأوهام ـ يقصد الريادة ـ ليس لشيء إلا لأنه لم يخرج منها). وفي الكتاب الذي تتجاوز صفحاته 270 صفحة، ينطلق الدكتور جمعان إلى تحليل خطابات من يرى أنهم "رواد حقيقيون" مثل الشيخ حمد الجاسر، وذلك في فصل تحت عنوان "من محاولات هز النموذج" حيث يصل بعد تحليل لبعض كتابات الجاسر إلى أن (مشروع الجاسر العلمي كان مشروعا علميا ضخما، ولكنه أيضا كان يحمل حملات خطابية تؤسس لمبدأ قبول الاختلاف، وتؤسس للكشف عن جوانب حضارية وتأريخية وجغرافية تستطيع الوقوف بإزاء السائد الخطابي كاستراتيجية خطابية فاعلة لا يمكن تجاهلها).

اللافت في الكتاب هو تطرقه لشخصية أدبية قد لا يعرفها الكثير من أبناء الجيل الحالي وهو "عبدالله سعيد الغامدي" الذي يقول عنه مؤلف الكتاب إنه (انتحر إبان حركة الحداثة والصحوة في الثمانينات ). ويعتبر أن (نصوص عبدالله سعيد نصوص إنسانية تحارب اللاإنسان، تحارب الترويض الجمعي للعقل، وللمعرفة وتدعو إلى تحطيم حظائر التخلف، ولكنها في الوقت نفسه لم تستطع فك ولو عقدة صغيرة من عقد ذلك الترويض الذي يزداد عقدا وتصلبا أكثر فأكثر). ويضيف ( مات عبدالله سعيد، لكن لن يموت نصه أبدا، فالنص الذي كتبه يضعه في المقدمة مع الإنسانيين والتنويريين في المملكة والوطن العربي).

ولأن الكتاب يرصد بعض التحولات الفكرية في المملكة فقد خصص فصلا كاملا تحت عنوان (أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتحولات الثقافة)، لعل أبرز ما تطرق له في هذا الفصل " التحولات التي شهدتها بعض المؤسسات الثقافية يقول ( تحول القائمون على الأندية الأدبية من مطاردي الحداثة إلى مضيفي الحداثة، ربما لأن النموذج أدرك أن الحداثة الشكلية لا ضير منها، ما دامت لم تتجاوز ذلك إلى حداثة فكرية).

ثم ينطلق لدراسة بعض الشخصيات الشهيرة مثل محمد سعيد طيب الذي يرى أنه من الجيل الثاني من(النخبة الحجازية)، التي كانت "مهمتها حفظ النموذج الثقافي" حسب تعبيره. وربما يقصد هنا مفهوم "الريادة".

ويصل إلى أن "استراتيجية التفتيت التي أعقبت الحادي عشر من سبتمبر، وما استجد من وسائل الميديا الحديثة، قد أوجدت حالة غير مستقرة هي أشبه بحالة الصراع مع النموذج). كذلك حلل الكتاب بعض نماذج الخطاب من خلال "حجاج التحولات .. برنامج إضاءات في قناة العربية أنموذجا).