قد يعجب أحد بحزب الله، وقد يخيب ظن أحد في حزب الله، وقد يعارض أحد حزب الله، وقد يناصر أحد حزب الله، وقد يتصدى أحد لحزب الله، وقد يساند أحد حزب الله؛ ولكن لا أحد يستطيع أن يقول: إن حزب الله ليس هو الرقم الأقوى والأصعب في لبنان؛ سواء سمى نفسه بحزب الله، أم أسماه غيره بحزب اللات أم حزب الشيطان، أم حزب حسن نصرالله. حزب الله منتج لبناني، بغض النظر عمن شكله ودربه وسلحه، حيث هو يتحرك ضمن الساحة اللبنانية، بكوادره وجمهوره اللبناني وحلفائه اللبنانيين. ولبنان حالة خاصة، لا يمكن مقارنتها بأي حالة أخرى مجاورة أم بعيده.

كل من اعتقد، أنه يعرف لبنان أكثر من غيره فهو يجهل لبنان أكثر من غيره. هنالك كثر خارج لبنان يعتقدون أنهم يعرفون لبنان أكثر من غيرهم، ولكنهم في حقيقة أمرهم، يعرفون لبنان أقل من غيرهم. وهنالك داخل لبنان من يعتقدون بأنهم يعرفون لبنان أكثر من غيرهم، ولديهم القدرة على شرح ظروفه ومتغيراته ومستجداته لغيرهم خارج لبنان؛ ولكنهم وحسب واقعهم، يخسرون يوما بعد يوم ما تبقى من مواقعهم أكثر من غيرهم. فكما هو ظاهر، لا أحد يعرف لبنان، لا داخله ولا خارجه إلا من أثبت أنه الرقم الأصعب وبمسافات عمن يأتي بعده في لبنان، وحافظ على ذلك.

قصة لبنان اليوم، هي قصة لبنان بالأمس القريب والأمس البعيد؛ والتي ابتدأت عندما اقتطع المستعمر الفرنسي لسورية، منطقة لبنان من سورية، وجعل منها دولة للطائفة المسيحية السورية، حسب اتفاقية سايكس بيكو عام 1920م. وهذا الخلق للكيان الجديد "لبنان"، خلق معه داخل أحشائه ثلاث مشاكل كل منها يزعزع بلدا بحاله ويهدد أمنه وكيانه. ما يزال لبنان يعاني من هذه المشاكل البنيوية الثلاث، ولم يستطع الفكاك من أي منها؛ وهي مشكلة جيو استراتيجية وجيو حيوية، وجيو سياسية داخلية.

المشكلة الجيو استراتيجية، هي ارتباط لبنان استراتيجياً بسورية، حيث هو امتداد للجغرافيا السورية إن لم نقل جزءا منها، إذ تحده سورية من ثلاث جهات، عدا البحر، الملاصق والممتد من البحر السوري كذلك؛ مما جعل سورية ولبنان كالتوائم السيامية غير القابلة للفصل، فأي مشكلة في أي منهما تمتد للآخر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، عن طريق شرايين الحياة الرابطة بينهما.

ولذلك فأي مشكلة تحدث في لبنان تهدد سورية نفسها بطريقة مباشرة أم غير مباشرة؛ ولذلك فليس غريباً أن سورية دوماً وستكون دوماً، بغض النظر عن الحكومة القائمة في سورية، متأهبة للتدخل داخل لبنان، خاصة عند وجود أي هزات أمنية أو تدخلات خارجية فيه. بمعنى آخر، لبنان يمثل الحلقة الرخوة أو الهشة في خاصرة الجسد الجغرافي السوري.

والمشكلة الثانية هي المشكلة الجيو حيوية، والتي تتمثل في خلق فرنسا للبنان؛ ليظل جزءا لامتداد مجالها الحيوي الاستراتيجي في منطقة المشرق العربي، بعد استقلال سورية عنها، وربط لبنان بها اقتصادياً وثقافياً وكذلك سياسياً (العلاقات الدولية). وهذا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ربط للبنان بالقوى الأوروبية؛ ولو عن طريق الرابط الأخلاقي. وعلى حسب الارتباط الجيو حيوي للبنان بالقوى الأوربية، وخاصة فرنسا؛ أصبح لزاماً على أوروبا، من الناحية الأخلاقية التدخل لحماية لبنان؛ فإن لم تستطع التدخل بجانب الحكومة اللبنانية القائمة حينها، بسبب ما أخذ لها عليها فهي تبادر بدعم حلفائها في لبنان، ولو أتى ذلك على حساب أمن الحكومة القائمة؛ وهنا تكون القوى الأوروبية عامل زعزعة للبنان أكثر منه عامل استقرار؛ ولو أتى ذلك عن طريق مبدأ الأخلاق في العلاقات الدولية.

أما المشكلة الثالثة وهي المشكلة الجيو سياسية الخارجية؛ فهي التي تواجه دوماً أمن لبنان الداخلي، وذلك عبر ارتباط طوائفه الجيو سياسية، بالدول والمحاور والقوى الإقليمية والدولية القريبة والبعيدة عن لبنان. لبنان خلق حسب معادلة طائفية وتم دعمها وحمايتها خارجياً؛ مما حفز باقي الطوائف على أن تبحث خارج لبنان عن قوى ومحاور إقليمية ودولية، لدعمها وتعزيز تواجدها على الساحة اللبنانية الداخلية، حماية للذات ومجاراة للطوائف اللبنانية الأخرى. أي أن هنالك أجزاء من لبنان مرتبطة خارجياً؛ بدول ومحاور متناحرة خارج لبنان؛ مما يجعل من الطبيعي انتقال تناحرها في ما بينها داخل الساحة اللبنانية.

لبنان يعاني من فراغ أمني حاد؛ حيث الحكومة لا تستطيع فرض إرادتها على جميع لبنان؛ وذلك بسبب تقوية الطوائف في لبنان، داخلياً وخارجياً، والذي أتى على حساب تقليص صلاحيات مؤسسات الدولة اللبنانية شيئاً فشيئا؛ وعليه عجزت الحكومات، إن لم نقل شلت قدرتها، عن إدارة الدولة اللبنانية. لم تؤسس الدولة اللبنانية لتدير لبنان؛ ولكنها أسست لتدير دول الطوائف داخل لبنان وتنسق فيما بينها. أهم مؤسسات الدولة اللبنانية هي مؤسسة الجيش؛ والذي حرم بدوره، من قبل القوى الغربية، من التسليح الجاد ليدافع عن لبنان، كل لبنان. الجيش اللبناني يعد أمن لبنان الخارجي والداخلي مهمته الرئيسية؛ ولكن تقليص وتحجيم قدراته جعله يقف متفرجاً على ما يدور داخل وخارج لبنان؛ ويتجرع مرارة ذلك.

وتتضح مشكلة التكوين عند لبنان أكثر وتبدو أكثر حدة وتعقيداً، عندما نستوعب وجود الفراغ الاستراتيجي في منطقة المشرق العربي، والتي يقع لبنان في جزء مهم منها. إذاً فكل دول المنطقة تعاني من الفراغ الاستراتيجي في المنطقة؛ ما عدا لبنان؛ فهو يعاني من مشكلة فراغين: الفراغ الاستراتيجي في المنطقة، والفراغ الأمني داخل لبنان نفسه؛ مما جعله ساحة رحبة لصراع القوى الإقليمية والدولية الاستراتيجي أكثر من غيره من بلدان المنطقة، مع صغر مساحته.

إسرائيل أكثر الدول عبثاً وتخريباً في الساحة اللبنانية؛ وخاصة عند غزوها للبنان عام 1982؛ حيث احتلته وأخذت تعربد فيه، وتقوي أطرافا على حساب أطراف أخرى، وتشعل من نيران الحرب الأهلية الدائرة منذ عام 1975. إيران التي دخلت حديثاً في لعبة الصراع الإقليمي بعد ثورتها عام 1979، وجدت كذلك لبنان ساحة جاهزة لمد مجالها الحيوي في المنطقة، والوصول لحدود إسرائيل، عبر الطائفة الشيعية في جنوب لبنان. إيران وعن طريق الحرس الثوري، جندت الشباب المتدين والملتزم بنهج الإمام الخميني، من كوادر حركة أمل وغيرها، وكونت منهم تنظيما سريا مدربا ومؤدلجا، أسمته في البداية بمنظمة الجهاد الإسلامي. التنظيم الجديد، فجر "بركسات" الجيش الفرنسي والمارينز الأميركي في لبنان؛ وأجبرهم على الخروج منه.

ما قام به التنظيم السري لحركة الجهاد، من ضربات قاسية للجيش الفرنسي والمارينز الأميركي؛ أقنع القيادة السورية، التي يتواجد جيشها آنذاك بكثافة في لبنان، بمعاضدة ومساندة الحرس الثوري في دعم وتدريب وتسليح ما تمت تسميته بالمقاومة الإسلامية اللبنانية، والذي تم إدراجه ضمن قوى المقاومة الوطنية اللبنانية في جنوب لبنان، ضد الجيش الإسرائيلي الغازي. وكبر جناح المقاومة الإسلامية داخل المقاومة الوطنية اللبنانية وأصبح هو هي، وهي هو. للمقال بقية...