-1-

ما أشبه اليوم بالبارحة.. ذلك قول عربي قديم.

وفي حال العراق، ليس لنا من هداية نهتدي بها من التاريخ الحديث غير يابان الأمس، وما فعله الاحتلال الأميركي بذاك البلد المتعصب لقوميته أشد بكثير من تعصب أهل العراق لقوميتهم، وطوائفهم، ومذاهبهم المختلفة.

فعلى العراقيين أن يقرؤوا جيداً يوميات الاحتلال الأميركي لليابان، وما فعله هذا الاحتلال طيلة سبع سنوات (1945-1952)، ويقارنوا بين ما قاموا به وما قام به اليابانيون، لكي يضمّدوا جراحهم التي كانت أكثر إيلاماً، وأبعد غوراً، وأثراً مما أصاب العراقيين.

-2-

لقد كان سرُّ بلاء اليابان تحكُّم الديكتاتورية العسكرية فيها، وهي التي قادتها إلى حروب مجانية وجنونية، منذ مطلع القرن العشرين، وانتهت بنهاية الحرب العالمية الثانية، والتي لم تجنِ منها اليابان غير الدمار، والانهيار الاقتصادي، والتجاري، والنفسي، والمدني. وما قام به العسكريون اليابانيون من مغامرات عسكرية فاشلة بقيادة الجنرال الياباني توجو Tojo رئيس الوزراء ووزير الحربية، هو ما قام به العسكريون العراقيون والديكتاتورية العسكرية العراقية بقيادة صدام حسين. فاحتلال اليابان لمنشوريا في 1931 تحت ذريعة واهية وملفقة، تذكرنا باحتلال صدام للكويت في 1990. وابتهاج رعاع العراقيين ورعاع العُربان بهذا الاحتلال، يذكرنا بابتهاج اليابانيين لاحتلاهم منشوريا. وكما كان العسكريون اليابانيون يسيطرون على الدولة والحكومة اليابانية (1930-1945) فقد كـان كذلك حـال العراق منذ (1980-2003). ومنذ عام 1980 والديكتاتورية العسكرية العراقية تخرج من حرب لتدخل أخرى مع جيرانها ومع أعدائها، وتتكبد خسائر فادحة أودت بالعراق الغني والمنتج إلى الإفلاس والدمار. ولم يكن أمام العراقيين المعارضين في الداخل والخارج غير الاستعانة بقوة أجنبية عظمى لكي تخلّصهم من هذا الكابوس الديكتاتوري العسكري، قبل أن تصبح العراق ملكية "صدامية" متوارثة، كما كان يُخطط لها صدام.

والديكتاتورية العسكرية اليابانية، كانت تعلم أن وضعها العسكري تجاه القوة الأميركية وقوة قوات الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية قوة ميئوس منها، إلا أن الكبرياء العسكرية اليابانية التقليدية ظلت ترفض الاستسلام إلى أن ألقى الأميركيون القنبلتين المدمرتين على هيروشيما ونجازاكي في السادس والتاسع من أغسطس 1945، وهو ما يذكرنا تماماً بوضع الديكتاتورية العسكرية العراقية قبل نشوب حرب الخليج الثالثة. ولكن الفرق بين وضع اليابان ووضع العراق أن اليابانيين بعد هذا الرُهاب العصبي المتشنج عادوا إلى العقل، وانحنوا أمام الواقعية السياسية والعسكرية، في حين أن العراق متمثلاً في نظام صدام كابر، وتعالى، وتشنج، وأبى، واستكبر أمام الواقعية العسكرية والسياسية. وقد التفت حوله آنذاك بعض الفضائيات العربية التي شبهها بعضهم من أنها كـ (امرأة أبي لهب، حمّالة الحطب، في جيدها حبل من مَسَد) تسانده، وتذيع خطاباته المعتوهة، وتبثّ بفخر، واعتزاز، وبأشداق منتفخة أخبار فلول عصابته من المرتزقة الذين تُطلق عليهم زوراً وبهتاناً ودجلاً "المقاومة"، في حين أنها لم تُطلق على المعارضة العراقية لنظام صدام هذه التسمية القومية "المبجّلة".

-3-

لقد جاء الاحتلال الأميركي لليابان، بعد أن فقدت اليابان أكثر من ستة ملايين وستمئة ألف قتيل من جرّاء القصف الجوي الأميركي. وتمَّ تدمير البُنية التحتية اليابانية تدميراً كاملاً، ومُحيت مدنٌ كاملة من على وجه الأرض. وتمَّ تدمير الاقتصاد والتجارة اليابانيين تدميراً كاملاً، إضافة إلى التدمير النفسي الهائل الذي لحق باليابانيين المعتزين والمتمسكين بقوميتهم، وتراثهم، وعزتهم الوطنية. وبقي الشعب الياباني يعاني من هذه الأمراض النفسية طيلة خمسة عشر عاماً بعد ذلك، إلى أن تعافى وشُفي من هذه الأمراض، وعاد شعباً سوياً منتجاً، ومبدعاً.

ولو نظرنا إلى ما أصاب العراق في 2003 وبعد ذلك، لرأينا أن ما أصابه من دمار وويلات، لا يقاس بما حل في اليابان عام 1945. وأن حال العراق كان أفضل بكثير من حال اليابان المعدومة تماماً في ذلك الوقت. وما زالت في العراق الإمكانات المادية والبشرية والطبيعية لكي ينهض بسرعة أكبر مما نهضت اليابان. كما أن العراقيين لم يصابوا بذاك الإحباط النفسي العنيف الذي أصاب اليابانيين نتيجة للدمار الشامل الذي حلَّ بهم. بل إن معظم العراقيين كانوا في سعادة كبيرة لتخلصهم من النظام السابق. في حين أنه لا ياباني وطنياً أو غير وطني كان سعيداً بما قامت به أميركا من جرائم وفظائع في الشعب الياباني.

بل إن بعض المثقفين والسياسيين العراقيين كانوا يقولون:

"بصراحة، نحن نفضِّل أن تتولى أميركا الحكم مباشرة لسنوات عديدة. فبعدما تجولنا في أنحاء العراق، وتحدثنا مع الناس من مختلف أطياف الحياة، يمكننا القول إن العراقيين يثقون بأميركا أكثر من ثقتهم في سياسيينا المحليين" (جريدة الشرق الأوسط، 17 /7 /2003).

ومن هنا نقول: إن مستقبل العراق السعيد كان – لو وُجِدَ الشرفاءُ المخلصون من أبنائه – سيخطو خطوات أسرع في الوصول إلى أهدافه، مما كان عليه مستقبل اليابان الذي استغرق خمسة عشر عاماً لكي يصل إلى أهدافه.

-4-

إن العقبات والمشاكل التي وجدتها أميركا في العراق، لم تصادفها في اليابان، كما أن ما وجدته أميركا في اليابان لم تجده في العراق، ومنها:

1- كان الجنرال مكارثر أو (مكارثر باشا) الحاكم الأميركي الأعلى في اليابان قائداً يتمتع بإرادة قوية، وله شخصية كاريزمية جذابة، وكان ذكياً في طريقة وأسلوبه في مخاطبة اليابانيين الذين كانوا ينظرون إليه كقائد مُلهم، يمكن أن يخلّصهم من حالة اليأس، كما وصفه أدوين رايشاور في كتابه (اليابانيون، 1977، ص149). في حين أن الجنرال جاي جارنر الذي عيّنته وزارة الدفاع الأميركية في العراق لم يكن على هذا المستوى، ولم ينل ثقة العراقيين.

وفي الأسبوع القادم، سوف نكمل بإذن الله، سرد المشاكل في العراق واليابان.