حينما كنا صغارا.. كنا نهتف فرحين في أول لحظة تقع فيها عيوننا على هلال الشهر الكريم: "يا هلال هلك الله.. ربنا وربك الله".
يشرق شهر رمضان المبارك في دواخلنا قبل أيامنا، وفي أرواحنا قبل ساعاتنا.. شعور مريح وغريب وعارم وطبيعي نعيشه منذ الأسبوع الأخير من شهر شعبان، وبالذات في اليوم الأخير منه، وهو ما نسميه "يوم القـَرش".
ويوم القرش هو الاستعداد الشكلي، والظاهري والاجتماعي لقدوم الشهر الكريم من تنظيف المنزل وإعادة ترتيبه والتخلص من الكثير من الأشياء والأثاث القديم ..الخ، وكنا – وما أجملها من كلمة مقدور عليها حتى الآن على الأقل، وما آلمها في الوقت نفسه - ننتقل من بيت إلى آخر بالأشياء والحاجات القديمة والجديدة، ويستعد أحد المنازل بتقديم الغداء لجيرانه المقربين في ذلك اليوم. شعور وبهجة بالصوم تصنعها.. كل الجوانب والوجوه البشرية والسلوكية والنفسية بعد عظمة وجمال الفريضة المؤداة.
ــ لم تكن عبارة (كل عام وأنتم بخير) معروفة في قرى الأحساء (على الأقل) حتى بداية التسعينيات الهجرية، والسبعينيات الميلادية المنصرمة، في اقتراب مباشر من صورة التهنئة بالشهر الكريم.. فهي من العبارات العصرية الوافدة، بل كانت التهنئة لشهر رمضان المبارك لا تتجاوز عبارتين اثنتين: "على البركة بالشهر"، "على البركة بالصيام".
تلك كانت تحياتنا مع بداية الشهر.. وهي لكم أيضا.
ولقد لاحظت أن التهنئة لا يتم القيام بها أو تبادلها مباشرة في التزاور المعتاد بين الناس في (ليلة الهلال) نفسها أو بمجرد أن تثبت الرؤية، ولم يكن هناك ذلك التسابق على التهنئة كما هو الآن.. بل كانت تتم بعد الإفطار من اليوم الأول من الشهر الكريم، وحينما سألت والدي (يرحمه الله) عن ذلك..أي لماذا لا تكون بمجرد معرفة وثبوت الهلال.. قال لي: "إن السبب يعود إلى أنك تقوم بتهنئة أخيك المسلم بعد أن بلغه الله تعالى صيام اليوم الأول من شهر رمضان، وذاق طعم وحلاوة الصوم، ودخل فعلا بصومه في ضيافة الله، وكذلك أنت، فتكون التهنئة ـ والحديث ما زال للوالد ـ بدخول الشهر وبلوغ فريضة الصوم أنسـَب، إذْ لا محل للتهنئة قبل هذين الأمرين، بالإضافة إلى ظروف كل صائم في ذلك" انتهى.
قضينا أواخر الثمانينيات، والنصف الأول من التسعينيات الهجرية، وما يوافقها من الستينيات والسبعينيات الميلادية المنصرمة دون كهرباء، وذلك في معظم قرى الأحساء.
في رمضان كان (التريك) وهو قنديل يعمل على (الكاز/ الكيروسين) هو الذي يشق عباب ظلام القرية ليلا، وهو الذي يشعل مع اشتعال (فتيلته) كل جوانب العمل والحركة والنشاط العام، ومع ذلك فقد لا تجده متوافرا لدى الجميع.. فأغلبنا كان يعيش ضيق اليد و(ذاتها)!
وهنا تعبر الذاكرة صورة ناصعة تقدمها المرأة في الأحساء (وفي أغلب المناطق والمدن أيضا).. أثناء الشهر الفضيل، تلك الصورة هي القيام بعمل أغلب عناصر مائدتي الإفطار والسحور يدويا وبمواد غذائية محلية بحتة، وفي ذلك لا تجد أحلى، ولا أروع، ولا أنفع، وكل أفعال التفضيل في لغتنا العربية، مما تقدمه المرأة على تينك المائدتين.
بل إن بعض النساء لدينا كُنّ ينفرن من (بعض) المواد الغذائية الجاهزة التي (بدَأَت) تتسلل إلى بعض المنازل مما يجلبه بعض موظفي شركة (أرامكو) من (الكانتين: أي السوق المركزية في الشركة). وكانت المرأة تسخر من هذه المواد وتضرب في ذلك بعض الأمثلة الشعبية .
وفي الحقيقة.. فإننا حتى الآن لم نجد ما ينافس ما كانت تعمله أمهاتنا بيدها عن بقية الأصناف الأخرى المعروفة الآن، سواء من مواد مستوردة، أو حتى مصنعة محليا بشكل حديث.
أما أهم الأصناف التي كنا نتناولها في شهر رمضان على الإفطار فهاك بعضها: لقمة القاضي، وفي الأحساء نسميها (اللقيمات)، وفي القارة نسميها (الماصـِخ)، ولا تزال صامدة حتى الآن في تصدّرها ومنافستها للتمر (عند البعض)، ويتم غمسها في (الدبس) وهو ماء التمر وعَسَله. الهريسة.. والشوربة المعمولة منها. الكبة الحساوية المطبوخة بالأرز الأحمر الخاص. خبز الرقاق، وتناوله مع اللبن. الساقو. النشا وغير ذلك.
ومع أن الشهر الفضيل له روحانيته وخصوصيته وبرامجه، إلا أنك قد تجد من البعض من يجري فيه (عقد القران) بين خطيبين ليكون الزواج في ثاني أيام العيد المقبل "إذا كان الجماعة مستعجلين واجد"، بما قد يرى البعض الآخر فيه غرابة إلى حد ما، ويتم ذلك بقصد أن تشمل بركة شهر رمضان هذين الخطيبين ويرزقهما الله الذرية الصالحة، ولكن حتى نهاية الثمانينيات الميلادية لم أشهد حفل زواج في نفس أيام الشهر في الأحساء، بيْد أني دُعيت على ذلك في أواخر التسعينيات وما بعدها في مدينة الهفوف، ثم بعد ذلك بدأ الأمر يأخذ في الألفة.
وفي ليالي شهر رمضان الكريم وأيامه المباركة نقرأ القرآن ليلا في المجالس بصوت مسموع، وتليه الأدعية الليلية المأثورة، وكذلك قراءته في النهار، إذ إن الشعور مرتبط بأن هذا الشهر هو (شهر القرآن).
وفيه يتم عند الكثير من الناس، إنجاز وإنهاء الكثير من الأعمال المؤجلة، فالكاتب يكتب في الليل، والقارئ يقرأ فيه، ويكون في سباق مع نفسه لقراءة المزيد من (ختمات) القرآن الكريم، والفنان ينجز لوحاته، والتاجر يحرص على توسيع محله وتجارته، وكان الإنتاج العملي في النشاط العام في أغلب القطاعات إنتاجا طيبا، بل مضاعفا، رغم مجيء شهر رمضان في الصيف أحيانا، ولكنه لم يكن أبدا ذريعة للخمول والتكاسل والنوم وتأجيل الأعمال.. كما هو اليوم – للأسف -
ومن فضائل وعجائب شهر رمضان المبارك أن الإنسان كان ولا يزال منسجما تماما مع (التغيير) المفاجئ الذي يطرأ على برنامجه اليومي والغذائي وعلى ساعته (البيولوجية) كما يقولون، فلا تجد من يتأثر صحيا بذلك أبدا، بل تجد العكس تماما.
ذلك لأن الإنسان قد أَعد نفسه مسبقا منذ الأيام الأخيرة من شهر شعبان في كل ما يمكن أن يطرأ عليه، بالإضافة إلى (المكانة المقدسة) لهذا الشهر عند المسلم، كما أن العلاج الصحي لأي تغيير مفاجئ هو الوضع النفسي ـ كما هو معلوم ـ لذا لا تجد ذلك حاضرا عند الصائم في السابق، بل ربما وجدته جليا عند الإنسان المعاصر.