في طفولته عاش حياة ريفية بمنطقة من أجمل مناطق البلاد، حيث السهول الشاسعة والتلال المتموجة والعشب الأخضر، حيث يسوق الرعاة قطعانهم ثم يعودون إلى منازلهم التي لم تكن سوى أكواخ يغطيها القش، في صورة بهية لحياة ريفية في أرض بكر.
في هذا المكان ولد الفتى الأسمر (روليهلاهلا) في 18 يوليو 1918، لأب أمي وثني يتزعم قبيلة ويتميز بالصرامة والعناد، وربما أورثه شيئا من ذلك، فهو ابن الزعيم من زوجته الثالثة.
في طفولته كان خجولا ووحيدا لا ينبس ببنت شفة. وفي صباه أظهر تفوقا في الرياضات الفردية كالملاكمة، وسباق المسافات الطويلة. أحب ركوب الخيل، والرقص على أنغام الأغنيات القبلية، وكان متفانيا في العمل أكثر من أقرانه، ومجتهدا في دراسته في البعثة المحلية، إذ بدأ يجيد اللغة الإنجليزية، يكتب الكلمات على لوح وينطقها بلكنة محلية لازمته طوال عمره.
التقى للمرة الأولى في حياته برجل أبيض في المدرسة، كان بحاجة للمساعدة نتيجة عطل أصاب دراجته النارية، فكان الفتى الأسمر أفضل من يتحدث الإنجليزية بين زملائه. لم يكن ذلك الفتى يسمح بأن تُخترق دائرته الخاصة، لا يحب أن يستفزه أحد، ردة فعله مباشرة إذا ما استثير، وليس لديه وقت يضيعه في التفاهات، باختصار: كانت تظهر عليه علامات القيادة.
قبل موت والده، أوصى صديقه - زعيم القبيلة الجديد - بتربيته والعناية به، وقد أحسن الوصي تربيته ومحاولة إعداده لأن يكون مستشارا قبليا في المستقبل القريب. وفي سن السادسة عشرة كان الفتى على موعد مع أهم نقلة اجتماعية في حياته، حيث التحق عام 1934 بالمركز التعليمي للبعثة التبشيرية الكبرى والتقى بمديرها، وكانت يده أول يد بيضاء يصافحها، وعلى الرغم من صرامته وإدارته للمدرسة بطريقة القبضة الحديدية، إلا أن الفتى لمس فيه جانباً إنسانيا لديه ولدى زوجته حين عمل في حديقة منزلهما.
توقع الفتى الأسمر أن يحظى بمعاملة لائقة من زملائه في المدرسة؛ معتقدا أن كونه سليل زعامة قبلية كافيا لاحترامه، إلا أنه اصطدم بالاستهزاء من قبل إحدى الطالبات بسبب لهجته الريفية وبطئه وصوت حذائه الذي يشبه صوت حوافر الخيل كلما مشى، ووجد نفسه بين أناس يحترمون الذكاء أكثر من احترامهم للوضع القبلي والعائلي، فاستعاد شيئا من توازنه واستطاع بفضل ذاكرته القوية الحصول على شهادة المرحلة المتوسطة في عامين.
ثم انتقل إلى مدرسة تبشيرية أخرى لم يتأثر فيها دينيا، وإنما تأثر بجوها (البيوريتاني)، ونظامها التعليمي الصارم، والتدريب الذهني الذي يجرد الأفكار ويعيدها إلى جوهرها؛ ولذلك كان يشجب التطرف والإفراط في الشتائم، ويفضل الاعتماد على الذات الذي تعلمه في المدرسة فزاده تماسكا. وفي أواخر ثلاثينيات القرن الماضي انتقل إلى جامعة أهلية للسود، كانت الوحيدة من نوعها، وكان تأثيرها الثقافي والسياسي أكبر من عدد طلابها، ورغم ذلك لم تكن الحرب ولا السياسة هاجس الفتى الأسمر.
انتقل في بداية الأربعينيات إلى أكبر مدن البلاد ليعمل حارسا لمنجم، مع وعد بمنحه عملا مكتبيا بعد ثلاثة أشهر، إلا أنه لم يستمر في هذا العمل وقادته الصدفة إلى العمل مع محام يهودي وافق على توظيفه بعقد، وحين رأى منه اهتمامه وضميره الحي أقرضه مالا قليلا وأعطاه بدلة قديمة ارتداها لخمس سنوات، وكان ينصحه دائماً بالابتعاد عن السياسة، وأن بإمكانه خدمة مجتمعه إذا استطاع أن يثبت أنه محام أسود شريف وناجح.
إلا أن السياسة كانت تحيط به من كل جانب، أكمل رغم ذلك دراسته الجامعية عن طريق المراسلة، لكن أدرك أنها ليست طريقه إلى النجاح، فالتزم العمل السياسي وعمله في المحاماة، ونشره مقالات حقوقية في بعض الصحف.
انضم إلى حزب المؤتمر الوطني للمطالبة بالحقوق الإنسانية والوطنية والسياسية، وازداد قربه من أصدقاء هنود، فأصبح أكثر اهتماما بالهند نفسها التي كانت على أبواب الاستقلال، وأظهر اهتماما وتأثرا بالزعيم الهندي (غاندي) الذي كان ذات يوم يعيش على الأرض نفسها التي وطأتها قدميه، وكان يقول: إن لغاندي روح الفولاذ لكنها تتجلى بطريقة لطيفة وناعمة، وكان يؤكد أن طريقة غاندي ليست مبدأ ثابتا إنما هي تكتيك يستخدم حسب مقتضى الحال.
أصبح الفتى الأسمر أمين سر رابطة الشباب في حزب المؤتمر الوطني، وبدأت حياته النضالية التي أذاقته طعم السجن والمعاملة السيئة لأول مرة في حياته.. لكنها كانت البداية، فبعد نضال طويل يجد الفتى الأسمر نفسه سجينا في زنزانة لمدة 27 سنة، إنه (نيلسون مانديلا) الذي منحه معلمه في المرحلة الابتدائية حين كان في السابعة من عمره اسما غير اسمه الأصلي.
لقد كان هذا المقال إلماحة مختصرة من كتاب أنتوني سامبسون "مانديلا السيرة الموثقة" الذي ألفه بعد صداقة دامت أكثر من 45 سنة. ويلاحظ القارئ في المقال أعلاه أنه لم يحو أي تواريخ أخرى غير الولادة... إن العالم اليوم يحتفل بولادة نيلسون مانديلا، الذي قال: "إن الإنسان يجب أن يموت قرب المكان الذي ولد فيه".