الأسبوع قبل الفائت غرد أحد الأصدقاء (محسن حكمي)، من حسابه على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، قائلا: "حين أقف على تغريدات أبي فيروز "مفكراً"، وإبراهيم زولي "مثقفاً" أعرف يقيناً سبب غيابهما عن رجل الشارع البسيط!!"، و"المشكلة أن المفكرين والمثقفين يكتبون بلغة لا يفهمها غيرهم فكأنهم يحدثون بعضهم بعضا! انزلوا قليلاً للناس"، و"القضية ليست ما تكتب وحسب بل ولمن تكتب؟ وبأي لغة؟ اللغة التي تكتب بها لا يدركها إلا قلة يؤمنون أصلاً بما تكتب"، و"لن يكون للمثقف تأثير في مجتمعه"، وهذا حالهم كلهم هنا.. طالما خاطب الناس من عَلٍ لن يصعد أحد إليكم، انزلوا أنتم". الصديق (محسن) قال كلاماً أكثر صراحة من الذي أوردته لكم بين علامات التنصيص.
وأنا أزعم أنني من الجيل الذي تربى على روايات الكتاب المباشرين، من أمثال الروائي السوداني المبدع الطيب صالح، وأزعم أنني أعي طول المسافة بين الكتابة البسيطة المباشرة، والكتابة المعقدة أو غير المباشرة، وأدرك أن محاكاة الشارع لا يجب أن تكون أكبر مما يجب، إلا أنني أزعم أيضاً أن ذلك النوع من الكتابة ليس في مصلحة إنسان الشارع البسيط الذي استولت على عواطفه اللغة الكسولة المدغدغة التي تتسول أكثر مما تتحدى وتستفز ذهنية متلقيها!! وأن على كل كاتب أن يقدم واجب تثقيف الشارع قبل واجب معالجة الهنات أو الأخطاء الاجتماعية التي تشكل علامة في يوميات وحياة إنسان الشارع، وأن هذا الواجب يجب ألا يخرج عن حدود اللغة المرتبة، بمعنى ألا يسقط في فخ (كتابة اللهجة)، وهو ما يقع فيه بعض الزملاء من كتاب الأعمدة اليومية أحياناً، وعنوان هذا المقال أحد أمثلتها.
لكن أبرز عقبة أعدها (كوارثية)، هي ما يعكسه إنسان الشارع العربي على وجه العموم من استحسان اعتماده على استراتيجية (تلقي) المعلومة، وليس استراتيجية (السعي والبحث) عنها من خلال القراءة. وأعتقد أن هذه النقطة تحديداً هي أسوأ ما يفعله إنسان الشارع العربي، فالقرار هنا مناط إليه وحده، وليس منطقياً أن يطالب أو يرمي التهمة بأكملها لاحقاً على المفكرين والمثقفين، حتى وإن تحملوا جزءاً من التقصير! ولهذا فالمعيار هنا ليس الاستناد إلى القول بصعوبة التواصل مع مفردات الكاتب، أو القياس بعدد المعجبين أو المتابعين لجهة أو شخص ما، بل إن المعيار الحقيقي يكمن في القدرة على إمكانية تغيير بعض القناعات التي يعتقد بها إنسان الشارع أولاً، تلك التي يحاول من خلالها القفز على نقاط سلبية خطيرة، يجب عليه أولاً أن يجيب عنها قبل البدء في محاكمة الآخر، ومن ذلك خنوعه الدائم لرغبة (تلقي المعلومة) من الآخر، دون أن يكون له رأي في الحكم على صحتها من عدمها! فهو كما يقول التاريخ القريب جداً، قد وقع فريسة سهلة للراديو والتلفزيون والقنوات الفضائية، وشعر أنه من هنا تؤكل كتف الثقافة والمعرفة، ومن هنا يستطيع أن يبني ثقافته وخبراته، ومن هنا يستطيع أن يصنع الفارق الحقيقي! وهذه مخادعة عظيمة للحقيقة.
بل إن ذلك قمة الخطأ، ودليل على تقصيره وعدم سعيه هو شخصياً للبحث عن المعرفة من خلال القراءة، ولم يحاول أن يقوم بما عليه من مهمة ليستطيع تالياً محاسبة الأطراف الأخرى على التقصير في مهماتها، فالمعرفة المتبادلة تتطلب خطوات متبادلة من الطرفين، المُلقي والمتلقي معاً، وتعثر أحدهما سيؤثر على سرعة وحجم وقيمة المعلومة الثقافية أو المعرفية، وأسهم في ذلك الهجوم الإعلامي الكبير على عقلية وروح إنسان الشارع العربي الذي استسلم بطريقة عجيبة لكل وسائله من (راديو وتلفزيون وفضائيات وهواتف نقالة وإنترنت وأجهزة الكمبيوتر)! دون أن يكون له أي رأي أو دور في تقرير كيفية التعامل معها كمتغير وطارئ على حياته. ودليل على ذلك كمية الأخطاء الإملائية (الكوارثية) الفادحة! التي يقع فيها عدد كبير جداً من مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" و"تويتر"، والمتواصلين عبر "الواتس آب"... فهو يعرف كثيرا من المعلومات (كمياً لا نوعياً)، لكنه يعجز عن النجاح في كتابة أبسط الأسماء والمفردات!!
كما أن الثقافة الحقيقية بكل عنفوانها، ليست في مقالات الصحف على وجه التحديد، بل في تلك الكتب المنتشرة على رفوف المكتبات، القابعة قد علتها الأتربة، وكأني أسمع نشيجها الحزين الآن. وإن كانت مقالات الصحف تُصنف ضمن الكتابة الإبداعية النخبوية، فهي جديرة إذن بأن توضع على رفوف المكتبات على قدم المساواة مع أمهات الكتب العربية.