لا يعرف الشاب الجداوي محمد الصفيري شيئا عن "الكنداسة" المعلم الشهير في شارع التحلية أشهر شوارع "العروس". فجل ما يعرفه محمد كسواه من الأجيال الجديدة، أنه "أداة لتحلية المياه المالحة"، وأنه وسواه أيضا لا يرون في هذا المعلم إلا أكوام حديد بعضها فوق بعض.

إلا أن هذا المعلم المنصوب منذ عشرات السنين كالطود شامخا يحكي أن في جدة عبقا يحمل رائحة التاريخ. في ميدان "الكنداسة" أكوام من الحديد المتراكم بعضه فوق بعض. تمر من حوله أجيال لا تعرف هوية هذا الحديد ومكانته لدى "الجداويين" ومساهمته في صنع تاريخ مدينتهم وتطورها، بعد أن كانت مدينة صغيرة لا يتجاوز سكانها بضعة آلاف، وصلوا بفضل دخول هذه الآلة لجدة إلى نحو 5 ملايين نسمة في الوقت الحاضر، وترتبط كذلك بالمشروع الأكبر وهو وصول المملكة إلى أكبر الدول المنتجة للمياه المحلاة عالميا، ووصولها إلى مرحلة تحلية المياه بالطاقة الشمسية.


تاريخ مجهول

ويقول خالد بامظفر إن كثيرا من ميادين جدة لا تحمل لوحة تعريفية حول تاريخ المعلم أو الهدف من وضعه. ولكن خالد يعرف أن "الكنداسة" جزء من تاريخ جدة يحكي مراحل تطور العروس خصوصا أنه وضع في مكان قريب من محطات تحلية المياه الجديدة. وأضاف خالد: هناك من يرى أن لجدة تاريخا طويلا يجب أن يحصر وأن يدرج في مناهج التعليم العام لكي يفخر الأبناء بماضي أجدادهم، ملاحظا أن جدة اليوم غير جدة زمان نظرا لتطور العمران واتساع رقعة المدينة وكثرة ساكنيها، مبينا أن وجود تلك الآلة "الكنداسة" ساهم في هذا التطور.

وتروي مصادر تاريخية أنه وفي نهاية القرن التاسع عشر عرفت مدينة جدة جهاز تقطير الماء الذي أصبح معروفا بـ"الكنداسة" وكان موقعها مكان الكورنيش منذ عام 1304هـ، وهي عبارة عن مضخات سحب المياه من البحر، ثم تكرر ويرسل الماء المحلى للبيوت عن طريق "الشيب"، واحد يذهب إلى القناصل وآخر إلى الإدارات الحكومية وثالث خاص لعامة الناس يوزع عليهم عن طريق سقاة. وكان يقوم بتشغيل الكنداسة رجل هندي اسمه أحمد إسماعيل وتم منحه لقب "الكنداسة" والجنسية السعودية وصار اسمه بالكامل أحمد إسماعيل كنداسة وما زال أبناؤه موجودين في الحي ويحملون لقب الكنداسة.


تاريخ "الكنداسة"

يذكر رواة أن كنداسة جدة كانت عبارة عن ماكينة تحلية تستخدم الفحم الحجري لتنفيذ مهام تحلية مياه البحار، وتعمل على باخرة تركية غرقت على شاطئ جدة بعد ارتطامها بشعب مرجانية، فتم إنقاذ الماكينة والاستفادة منها، بينما تركت الباخرة في أعماق البحر. وتروي المؤسسة العامة لتحلية المياه في كتاب أصدرته في هذا الشأن أن الكنداسة لم تعمر طويلا، وخربت عام 1328هـ، 1910م. ثم تم إصلاحها وعادت للإنتاج، ثم استمرت تعمل بتقطع حتى عام 1346هـ، 1927م، ويبدو أن سبب تلك النهاية كما تروي مصادر عن المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة، هو انقطاع الفحم الحجري فصاروا يوقدون عليها بالحطب، فعجل ذلك بخرابها النهائي في عام 1346هـ، 1927م. ويشير الكتاب إلى أنه وبعد أن فشلت كل محاولات إصلاحها، تم استيراد آلتين كبيرتين في نفس عام 1346هـ، 1927م، وقامتا بمهمة تقطير الماء، وحينما كثر عدد السكان والحجاج، أشغلت آلات هذه الكنداسة بما هو فوق طاقتها الفنية، لتزود جدة بما يكفيها من الماء، أو على الأقل بأكبر قسط ممكن من الماء، فكان ذلك من الأسباب المباشرة التي عجلت بخراب إحدى الآلتين المجلوبتين حديثا آنذاك، وتتكون الكنداسة من وحدتين وأقصى إنتاج للوحدة هو 150 طن ماء في اليوم تقريبا، ويوزع الماء من هذا المعمل بواسطة السقاة والعربات.





مرحلة التطور

ويؤكد الباحث والمؤرخ الدكتور عدنان اليافي أن هذا التمثال الذي أقامته أمانة جدة في عهد أمينها محمد سعيد فارسي يمثل قلب الكنداسة، والتي هي أداة لتبخير الماء وتكثيفه وكانت تستخدم في سقي أهل جدة نظرا لندرة المياه في هذه المدينة.

ويقول اليافي إن فكرة تطوير الكنداسة جاءت عن طريق بعض الأوروبيين الذين كانوا يعملون في جدة آنذاك، وساهم تطور التحلية في قفزة نوعية كبيرة في تاريخ المدينة ومراحل تطورها، وأن هذه المياه كانت تستخدم للشرب والطبخ فقط.

وأشار اليافي إلى أن تطور أساليب تحلية المياه وجهود المملكة في توفير المياه حتى غدت من أكبر الدول المنتجة للمياه المحلاة في العالم جعل من "كنداسة جدة"، رمزا للكفاح في تاريخ هذه الدولة من أجل بناء المستقبل.


مهمة شاقة

ويروي "العم" حامد العبدلي أنه قبل حوالي 60 عاما كان جلب الماء مهمة شاقة مع ندرة مصادر المياه المحلاة في جدة وشح الأمطار، وأن دخول التحلية وتطور مراحلها في جدة ساهم في جذب الكثير من سكان القرى والمدن المجاورة التي كانت تعاني من نفس الإشكالية وبنت المدينة إثر ذلك حاضرا مزدهرا اقتصاديا واجتماعيا.

ويشير "العم" حامد إلى أن الملك عبدالعزيز أولى موضوع تحلية المياه اهتماما كبيرا لأنها من أهم مقومات الحياة في أي مكان، مشيرا إلى أن موقع الكنداسة كان في "البلد القديمة" وأن الأهالي كانوا يصطفون في طوابير من أجل الحصول على الماء في "جوالين" يشربون منها ويستخدمون المتبقي للطبخ، وساهم شح المياه آنذاك في تعطيل تطور المدينة التي شهدت توسعا هائلا بعد أن توفرت المياه بكميات كبيرة. وأضاف: عهد الملك فهد رحمه الله شهد قفزة كبيرة في موضوع تحلية المياه وأصبحت المملكة من أكبر الدول التي تنتج المياه المحلاة في العالم.


أهمية المياه

مدير المركز الإعلامي لمؤسسة تحلية المياه بالمركز الغربي حسين الشريف أكد أن وجود "الكنداسة" كمعلم وسط جدة يمثل رمزا لتاريخ تطور صناعة المياه في المملكة والجهود التي تبذلها الدولة من أجل توفير حياة كريمة لمواطنيها باستخدام كل السبل المتاحة، وبين الشريف أن المؤسسة تولي مسألة التعريف بأهمية المياه وطرق صناعته وكشف مدى الجهد المبذول في هذا العمل للمواطنين اهتماما كبيرا من خلال المنشورات واللقاءات الإعلامية وغيرها من الوسائل.

وأشار الشريف إلى أن المملكة تعد حاليا من أكبر الدول التي تنتج المياه المحلاة والتي يصل نفعها إلى كل مناطق الدولة ذات المساحة الشاسعة، وقال الشريف إن هناك اهتماما متزايدا من قبل المؤسسة بتوفير الماء حتى في أحلك الظروف وذلك تحت توجيهات القيادة الكريمة، وقال إن المؤسسة تسعى حاليا إلى إدخال تقنيات حديثة وأقل كلفة في مشاريع تحلية المياه.