أيمن العريشي - أيرلندا


ألم تشعر يوما بحنين ينتابك إلى ذلك الزمن الجميل؟ زمن "الطيبين" كما يحلو للبعض تسميته؟ ألم تعبر بسيارتك من أمام بوابة مدرستك القديمة؟ تلك التي احتضنت ضحكك وبكاءك، فرحك وحزنك، ثوابك وعقابك، شقاوتك وبراءة لهوك، مواقف محفورة في جدار ذاكرتنا ولا يمحوها تعاقب الأيام والأعوام، بالأخص ما احتضنته منها ردهات المدرسة وقاعاتها وساحاتها، والمشكلة هي أننا ما إن نحن لذكرياتنا تلك ونرغب في إنعاشها وعيش أجوائها من جديد إلا ونشعر بحجم البعد الزماني بيننا وبين مدارسنا بحكم انقطاعنا عنها لمدد طويلة من الزمن.

كم تمنيت أن أصحب ابني يوما في رحلة سردية عبر تاريخي الدراسي يكون المكان حاضرا فيها وليس مجرد الكلام! لكنني ترددت لسبب ما أجهله، وبصراحة فإن كثيرين منا ربما لم يعقدوا علاقة صداقة يمكن وصفها بالوطيدة مع مدارسهم لا أثناء الدراسة ولا بعد التخرج، بل كان آخر عهدنا بالمدرسة هو تلك الشهادة الأخيرة التي حصلنا عليها ثم غادرنا الباب بلا رجعة، حتى ونحن على مقاعد الدراسة كان طابع النفور والميل إلى "الهجة" أو "النحشة" من المدرسة هو المسيطر على تفكيرنا، ولعل مشهد دخولنا الممتعض للمدرسة كل صباح، مقابل خروجنا "المندفع" من بابها بعد الظهيرة هي معادلة كافية لتشريح الخلل الحاصل في علاقتنا بالمدرسة ومدى استمتاعنا بها من عدمه، ما زلت أتذكر كيف كان موقع مدرستي القريب من سوق الثلاثاء الشعبي في مدينة أبها يشجعني وأصدقائي على الهرب يوم الثلاثاء من كل أسبوع واستغلال أي فرصة لتغيير الجو والتجوال والتسكع بين دكاكين السوق الذي يغص بالباعة والمتسوقين والبضائع المختلفة ويتكرر الأمر ذاته أسبوعيا حتى أصبحنا لا نخجل من التصريح بذلك لمعلمينا عندما يسألوننا (وين فلان؟) فنجيبهم بثقة (والله راح السوق ومعه فلان وفلان، و...)، والغريب أنه طيلة تلك السنين لم تفكر إدارة المدرسة في تخصيص يوم واحد على الأقل لترتيب زيارة طلابية للسوق ذاته تحت إشراف المعلمين أنفسهم! أتذكر كذلك كيف كانت فترة الاختبارات النهائية فرصة سانحة "للتزويغ" من المدرسة بين الفترتين الأولى والثانية لتناول إفطار مختلف عن المعتاد كل صباح، ولعل الإغراءات قد ازدادت بعدما تواردت الأنباء حول خبر افتتاح مطعم شعبي في قرية المفتاحة التشكيلية، وهي معلم سياحي جميل قريب من مدرستنا أيضا (يبدو أن موقع مدرستنا كان سياحيا بامتياز)، ليأتي بعدها التفكير في مشروع مساهمة أو "قطة" صباحية لتوفير مبلغ مناسب يمكن دفعه نظير تناول ما لذ وطاب من أطباق الفول واللحم "المقلقل" والشكشوكة الساخنة مع كوب الشاي بالحليب الدافئ، وبينما كان لعابنا يسيل في انتظار إفطارنا المفترض إحضاره من قبل نادل المطعم، إذ بنا نفاجأ بمدير مدرستنا (حفظه الله) يظهر بدل النادل! ليضع كل منا طرف ثوبه في فمه ويتكرر مشهد النحشة ولكن باتجاه المدرسة هذه المرة، ولعله من نافلة القول بأن الإفطار الساخن قد تحول إلى علقة ساخنة! والرغبة في الشاي بالحليب الدافئ قد تبخرت هي الأخرى في ثنايا التقريع والتعهدات اللفظية والخطية وتبخرت معها كل مشاريع الفرار المستقبلية المبيتة في النية.

لا بد لعلاقة المدرسة بالأجيال الحالية والأجيال القادمة أن تتغير، لا بد للأسوار و"الشبوك" أن تُزال، ولا بد أن يتم التأسيس لعلاقة راقية ملؤها الاحترام والألفة بين التلميذ ومدرسته ويعتبرها حقا بيته الثاني، والأجمل من ذلك كله هو أن تبقى تلك العلاقة وطيدة حتى بعد تخرج الأجيال المتعاقبة، فهذه الأجيال بحكم اختلاف تجاربها وخبراتها في الحياة وتمرسها في مهن متعددة يجعلها قادرة على أن تثري مدارسها القديمة كنوع من رد الجميل لأهله والعرفان لأصحابه، كما أنها فرصة لتلك الطيور المهاجرة كي تعود مرة أخرى إلى أحضان أعشاشها الأولى وذكرياتها الدافئة، إنها فرصة ثمينة لتلاقي الأجيال وتلاقح الأفكار وتبني مشاريع تصب في مصلحة المجتمع والوطن بأسره.

في الولايات المتحدة وغيرها من الدول تقيم المدارس لقاءات دورية لخريجيها القدامى وهو الأمر الذي لم نفكر فيه نحن ولم نجد من يتبناه ويشجعنا على القيام به، بل ولم تبادر إليه أي من إدارات المدارس التي في محيطي على أقل تقدير، وإن وجد شيء من ذلك فإنما هي اجتهادات فردية، كمدرسة تحتفي مثلا بعدد القيادات الحالية التي تخرجت منها في الماضي، لكنني لم أسمع عن مدرسة تؤسس رابطة لخريجيها القدامى وتمد جسور الوصال معهم بشكل دوري. إن المدرسة كمؤسسة من مؤسسات المجتمع تحمل على عاتقها دورا تربويا تعليميا مهما، لكنها تحمل أيضا بموازاة ذلك أدوارا اجتماعية متعددة تجاه أبنائها وخريجيها وبيئتها المحيطة، وما لم يحدث تكامل بين تلك الأدوار فسوف تظل المدرسة مجرد محطة عابرة في حياة الأفراد، تقوم بدور أحادي رتيب، باعث على النفور و"النحشة" مجددا!