"هم يأكلون كل شيء.. لماذا أشتاق لهم؟"
تأبى هذه الجملة مفارقة ذاكرتي!! ليس فقط لأنها جاءت على لسان طفل محروم من أبسط ما تعج به موائدنا عند كل وجبة، خاصة متى ما زارنا الشهر الكريم.. ليس فقط لأنها انتشرت ومرت أمامي أكثر من مرة على مدار اليوم.. وليس فقط لأن ذلك الطفل يعيش في حمص، المدينة التي انسحبت منها شيئاً فشيئاً مظاهر الحياة كلما تقدمت بها مظاهر الهروب من الحياة والقضاء عليها..
الفكرة بحد ذاتها خطيرة ومخيفة: طفل يربط ذاكرته وعاطفته بمفهوم الحرمان والشبع، بمفهوم المتوفر والممنوع. ربط مشاعره وصنف أحباءه وحدد مجتمعه وفقاً لهذا التصنيف: من هو جائع ومن هو شبعان.. من يستطيع أن يشتري ما يريد عندما يشتهيه ومن خلت الدنيا من حوله من أي شيء يشتهيه. وليس الأمر مرتبطا بالقدرة على الشراء التي قد تكون متوفرة، بل بإمكانية الوصول إليه... وهنا بعدٌ آخر للألم.
بقلة خبرة أعوامه القليلة التي لا تتجاوز العشرة على أبعد تقدير، وبحدة عاطفته التي لم تقننها بعد قيود القواعد الاجتماعية للحديث واختيار المفردات المعبرة عنها، وبالغضب المتراكم في داخله كبركان يكبر سنه بكثير، لم يفكر كثيراً عندما سأله المصور أتشتاق إلى أصدقائك الذين تركوا الحي؟ كرر السؤال على نفسه: أشتاق لهم؟ وأجاب بسرعة: لا، لا أشتاق لهم.. هم يأكلون كل شيء.. ونحن هنا لا نأكل شيئاً!
فلسفة كاملة يمكن أن تقوم على تلك الفكرة البسيطة.. وربما فلسفة جديدة من نوعها! ولِمَ لا؟ نحن نعيش في منطقة تُغرقنا باكتشاف مشاعر جديدة ومعانٍ مختلفة لتلك المشاعر من زوايا الغضب والوجع والخوف والقلق والظلم والخسارة والمرارة والفقدان والخوف من الفقدان، ناهيك عن الموت الذي يلبس كل أشكال الحياة حولنا كلما حاولنا إقناع أنفسنا أننا نحيا كباقي البشر.
لنكن كذلك الطفل، بسيطين ومباشرين في بحثنا عن الإجابة الحقيقية: لا يا سادة، نحن لا نعيش كباقي البشر.
فالبعد الآخر لكلماته تلك هي المرآة التي يضعنا أمامها.. فلنتأثر بما قاله، ونحزن ونصرخ ونتأوه ونقطب حاجبينا وتشرد عيوننا بحزن للحظات ونعلق تلك التعليقات التي بتنا نحفظها غيباً عن "الله لا يوفقهم" أو "يا حرام" أو نستغفر الله وما إلى ذلك.. ولكن ماذا سنفعل في الدقيقة التي تلي؟ ستستنفر تلك القوة الخارقة في داخلنا التي تقنعنا أن الأمر انتهى مع غياب الصورة عن الشاشة تماماً ولننتقل إلى شيء آخر. أكثر قوة دربناها في حياتنا منذ عشرات السنين هي هذه القوة. لم نحاول التفكير كثيراً، استسلمنا لها لتسليم مزمن بالعجز وقلة الحيلة.. تعاطفنا ينمو مع اللحظة فقط رغم أننا نسمح لكل الأشكال الأخرى بأن تتفاعل وتتنامى وتتكاثر فينا إلى أقصى الحدود، في السياسة والانقسامات وحدة الخطاب وتطرفه، بل وننجرف فيها حتى ولو أصبحت سبباً من أسباب استمرار معاناة ذلك الطفل وغيره. فنحن دائماً نربط نهاية المأساة بنهاية الحدث المسبب بطريقة هوليوودية. والحقيقة أننا هربنا دائماً من التعاطي مع الأمر من زوايا أخرى لأن ذلك سيتطلب منا تفكيراً أكثر عمقاً، وعملا أكثر جدية ومنطقية، وخطة بناء حقيقية للإنسان فينا قبل الدول أو النظام.
فالمعارك على الأرض فعلاً تحسم دائماً بمهزوم ومنتصر.. لكن معركة الإنسان فينا وبيننا تتحول بسرعة وسهولة إلى المعركة المنسية، المتروكة والمهملة.
أعيش الحروب واقعاً ومهنة منذ ولدت، وأحفظ تطوراتها ونتائجها وما ترتب عليها كلها، ومع كل حرب، أقول لنفسي لن نعيش أصعب مما عشناه، فيفاجئني القدر بتجربة أصعب كل بضع سنوات..
ورغم هذا التجمع الهائل للحروب في منطقة واحدة، بقي الإنسان هو الغائب الأكبر.. بسهولة يتحول إلى رقم يموت أو يصاب أو يُفقد أو يتهجر وينزح. لكن ننسى أن هذا الرقم هو مجتمع بأكمله، بأمه وأبيه، يتحرك وينمو وينزف وينام ويشرب ويأكل ويذهب إلى المدرسة ويبحث عن عمل ويريد مستقبلاً..
عشت تلك الحروب وأنا أعرف تماماً أن الخبر الأخباري الذي أبحث عنه سأنساه تماماً وسأشعر ببعض الخجل منه، عندما سأتعرف على الوجه الآخر منه.. عندما أنزل إلى الناس وأشاهد حياتهم وأبحث عن قصصهم.. تتحول القصص التي نستطيع الوصول إليها إلى تقرير نعده وفي داخلنا رغبة في أن نعوض عن أهمالنا لهؤلاء الناس قليلاً، ولكن يبقى هؤلاء قلة بين أكثرية مجهولة، ونموذجاً فقط لآلاف الحالات غيرهم.
ورغم كل ما عشته وعاصرته وعملت به، لم يصل بي خيالي يوماً إلى أنني سأعاصر قصة شعب شقيق جار وقريب، تقول التقارير "المتخصصة" و"العالمية" و"الدولية" بأن نصفه قد يصبح لاجئاً مع نهاية العام!!
نصف شعب أصبح لاجئا خلال أقل من ثلاث سنوات! أية مأساة هذه وأي ألم.. أية مصيبة وكيف يمكن أن تأتي نتائجها بخسارة قليلة؟ وكيف يمكن التعويض؟ كلما فكرت في هذا الرقم تأبى علي النوم!
ذلك الطفل حدد معاناته الحالية ورسم معالمها بكلماته الحلوة القاسية.. حدد مطلبه وحلمه الآني على الأقل وحدد ألمه الآني أيضاً أو جزءاً منه ربما.. فلنكن مثله قليلاً.