-1-

لا شك، أن ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية تختلف عن ظروف ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001. وأن الشعب الياباني يختلف عن الشعب العراقي في البُنية الحضارية، وفي التعدد الطائفي والعرقي والديني. وأن الجنرال دوجلاس مكارثر، الذي وضع أُسس النظام السياسي والثقافي الياباني بعد الحرب العالمية الثانية، لم يعد حياً لكي يُكرر التجربة نفسها في العراق.

ولكن، لماذا حالت هذه الفروقات بين اليابان والعراق، دون تكرار "التجربة الأميركية/اليابانية" في العراق؟

-2-

إن كثيراً من الكتّاب والمعلقين في العالم العربي كانوا -ربما- لا يرون تكرار التجربة الأميركية/ اليابانية في العراق، بل كانوا يستبعدون هذا، ويعدونه ضرباً من الأحلام والخيالات الواسعة، وأملاً لا يختلف عن أمل (إبليس في الجنة)، ربما لأنهم كانوا قريبين جداً من الصورة، ومن الساحة. وكانوا لا يرون الكليات لانشغالهم بالجزئيات.

ولكن، وفي الحق، فكلما ابتعدتَ عن الصورة، استطعت أن تراها بشكل أوضح. واستطعت أن تهتم بالكليات، أكثر من الجزئيات. فعندما تكون في وسط الغابة، فأنت لا ترى الغابة، وإنما ترى الأشجار فقط.

وأن تفسير التاريخ يجب أن يتم من مسافة عالية وبعيدة، حتى نستطيع أن نرى الصورة كاملة.

-3-

في عام 2002، تسربت أنباء تفيد بأن أميركا لن تكتفي بـ"اقتلاع صدام حسين" ونظامه من العراق وتذهب، كما فعلت في عام 1991، حيث اكتفت بطرده من الكويت وذهبت. ولكنها ستضع بالتعاون مع مَن سوف يتعاونون معها النظام السياسي الدستوري الديمقراطي "الجديد" في العراق. وستكتب هي دستور العراق الجديد كما فعل الجنرال دوجلاس مكارثر حين كتب الدستور الياباني عقب استسلام اليابان في عام 1945. كما ستضع النظام الثقافي والنظام الاقتصادي بما يتلاءم والوضع الاجتماعي القائم، وبما يتلاءم مع التعددية الطائفية والعرقية والدينية الموجودة في العراق. وهو ما أكده وزير الخارجية الأميركي في شهادته أمام لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس في 19/9/2002. وأشارت إليه من طرف خفي كوندليزا رايس (مستشارة الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي، في ذلك الوقت)، عندما قالت لصحيفة الفياننشال تايمز في 23/9/2002 إن هناك عناصر إصلاحية في العالم العربي نريد دعمها. وقالت:

"سنكرس أنفسنا بالكامل لإعادة إعمار العراق. وأن أميركا تريد لنفسها أن تكون قوة محررة، تُكرِّس نفسها لإحلال الديمقراطية ومسيرة الحرية في العالم الإسلامي، وستبدأ ذلك من العراق".

-4-

ولا شك، أن ذلك الوقت الطويل، الذي أخذه الإعداد "الشاق" لحملة "اقتلاع نظام صدام حسين" من العراق، كان بسبب الإعداد السياسي والاقتصادي والثقافي، لمرحلة "ما بعد صدام حسين".

وأما الإعداد العسكري فلا يستدعي كل ذلك الوقت الطويل، سيما وأن أميركا كانت لا تخوض حرباً عالمية ثالثة يكون فيها "نظام صدام حسين" رأس الحربة، كما كان هتلر في الحرب العالمية الثانية. وهو ما عبّرت عنه صحيفة (الديلي تلغراف)، في ذلك الوقت (20/9/2002)، بقولها:

"إن الولايات المتحدة تخطط لنظام جديد بعد سقوط الدكتاتور. وإن أميركا تضع خططا لـ(إزالة النازية) من العراق بعد هزيمة صدام حسين، كوسيلة لضمان قيام نظام ديمقراطي في قلب الشرق الأوسط".

-5-

كان الغرب وعلى رأسه أميركا، يريد من العراق –على ما كان يبدو- أن يكون يابان ثانية تنشغل بـ"الفتوحات الصناعية" بدلاً من "الفتوحات العسكرية"، فيما لو علمنا الحقائق التالية التي كان يمكن أن تجعل من العراق قاعدة صناعية كبيرة في العالم العربي والإسلامي، تُعيد لنا ذكريات ما حصل في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية:

1- المجتمع العسكري العراقي شبيه بالمجتمع العسكري الياباني الذي كان قائماً قبل الحرب العالمية الثانية، من حيث سيطرة العسكرتاريا على الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية.

2- العراق بلد غني بموارده الطبيعية، واستطاع بهذه الموارد أن يقيم قاعدة علمية وصناعية. ولكن هذه القاعدة العلمية والصناعية انصبّت في الصناعات العسكرية المُدمِرة، أكثر مما انصبّت في الصناعات المدنية المُعمِرة.

3- لدى العراق ثراء عقلي كبير يتمثل في هذه الأعداد الكبيرة من العلماء في معظم ميادين العلم، وخاصة في مجال الفيزياء والكيمياء والذرة، وبشهادة الأمم المتحدة. كما أن العراق يتمتع بثقافة عريقة كما كانت اليابان تتمتع بثقافة تاريخية وعريقة. فالأدب العراقي شعراً ونثراً كان في صدارة الأدب العربي، والفكر العراقي في صدارة الفكر العربي، والعِلم العراقي في صدارة عِلم الشرق.

4- وأخيراً، استطاع العراق أن يبلع السكاكين الديكتاتورية، ويتقدم علمياً بشكل متفوق قبل حرب الخليج 1991. كذلك فعلت اليابان حين استطاعت أن تبتلع سكاكين مكارثر وتتحول إلى قوة صناعية مذهلة. فغزت العالم بما فيه أميركا بقوة العقول والسواعد المنتجة، وليس بالصواريخ، وأسلحة الدمار الشامل.

-6-

إلا أن كل هذه الآمال، بعد سنوات معدودة، خابت ولم يتحقق منها شيء، وانسحبت أميركا من العراق عام 2012، بعد أن أصبح العراق قاعاً صفصفاً وخراباً تنعق على أطلاله غربان المليشيات. فقد تولّى "حزب الدعوة" بقيادة إبراهيم الجعفري الحكم في عام 2004، ثم تولى نوري المالكي قيادة الحزب وحُكم العراق في 2005 وحتى الآن، وربما يمتد حكمه إلى عام 2015، وإلى ما بعد ذلك بمساعدة جيرانه ممن لهم مصلحة سياسية، وعقائدية، واقتصادية، في دعم حكم الحزب الواحد (الدعوة).

وبهذا ينطبق على العراق المثل الشامي الدارج: (كيكي.. كيكي.. زي ما رحتي.. زي ما جيتي). وعاد العراق -في رأي كثير من العراقيين- الى أسوأ مما كان عليه، قبل عام 2003. بل إن كثيراً من العراقيين الآن يتمنون عودة سنوات ما قبل 2003.