منذ أمسى التاريخ علما مستقلا بذاته، وانفصل عن علم الأخلاق ولم تعد قراءته بغرض استلهام العبر فقط، ولكن أيضا كأداة تساعد على فهم قوانين تطور الحضارات؛ أصبح لدينا فهم يتجدد باستمرار لوظيفته. انتهت مقولة ألا جديد تحت الشمس، بحسبان أن التسليم بها هو نكران لمعنى التجدد، الذي هو غاية الحياة، ومبرر تقدم البشرية.

التاريخ على هذا الأساس، لا يعيد استنساخ حركته، لكن هذا القانون العلمي لا ينفي تشابه بعض الأحداث في أشكال تمظهراتها، حين تكون إفرازات الأزمات الكبرى متماثلة. والتسليم ببعض أشكال التشابه لا ينفي على أية حال قانون الحركة، الذي هو المعنى الآخر للتاريخ. فلو لم تكن هناك حركة، لما كان هناك شيء يستحق التدوين. والحركة هنا ليست ميكانيكية، لأنها لو كانت كذلك ما كان هناك من فرق بين الإنسان والكائنات الأخرى في الفعل والسلوك، وإنما في محتواها الجدلي، الحاضن للوحدة والتنافر.

تقودنا هذه المقدمة، لما يجري الآن على الساحة المصرية من أحداث عاصفة، واختلافات تكاد أن تودي بوحدة المجتمع المصري، وتهدد وجود أقدم دولة عرفها الإنسان.

في حديثنا الماضي، مصر "تعيد كتابة تاريخها"، قدمنا قراءة مختصرة، لما جرى في أرض الكنانة، منذ انتفاضة 25 يناير 2011. وقد طغت نبرة التفاؤل بمستقبل مصر، على تلك القراءة. فبالنسبة لنا، يشكل انتهاء حكم الحزب الواحد، وأفول شمس أخونة مصر مكسبا وطنيا وقوميا، لا يمكننا إلا أن نحتفي به، ونرى فيه طيا لصفحة ماض بغيض، عطل دور مصر، وعزلها عن معظم شقيقاتها العربيات.

لكن أزمة مصر، لا يمكن اختزالها، في هيمنة الإخوان، ووجود تركة ثقيلة من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية. فما تنوء به مصر من أثقال، تنوء بحملها الجبال، بحاجة إلى جهد استثنائي، وعمل خلاق، لا تكفي فيه النوايا الحسنة.

أزمة مصر، هي نتاج عقود من سياسات اقتصادية خاطئة، لا تكفي الحلول التدرجية للخروج منها. إنها بحاجة إلى معالجات جذرية، تمنح الدولة في هذا المنعطف من التاريخ، دورا أكبر في صياغة البرامج والمناهج، والخطط التنموية لتضع مصر مجددا على السكة الصحيحة. وما لم يتم خلق حلول واقعية ومبدعة للأزمات المتراكمة التي تمر بها مصر، فستكون الحال أسوأ بكثير، مما تمر به الآن. وستشهد مصر انتفاضات موسمية، تطيح برأس الدولة وتنصب آخر، في متتاليات ليس لها نهائية. سيكون حال القيادات المصرية، أشبه بحال ولاة البصرة، أثناء المرحلة الأخيرة من هيمنة السلطنة العثمانية.

كان سلاطين آل عثمان لا يعيرون أي انتباه لمصالح الدول والشعوب التي وقعت تحت حكمهم، وجل همهم هو جباية الأموال منهم. وكانت المهمة الأساسية لولاة السلطنة في تلك البلدان هي جباية الأموال من السكان وإرسالها للمركز في الأستانة، دونما وضع أي اعتبار لمعاناة الناس واحتياجاتهم. وكان السلاطين باستمرار يلحون في طلب المزيد.

وفي البصرة، حدثت مجاعات لسنوات متتالية، جعلت العراقيين يشكون للوالي العثماني من عدم قدرتهم على تسديد ما يطلبه الجباة. لكن ذلك لم يغير من الواقع شيئا. تسود حالات الغضب ضد الوالي، فيصدر فرمان السلطان بعزله. فيحتفل الناس بالخلاص من الوالي الظالم، وينقسمون إلى فريقين، فريق يتولى ضرب الوالي المعزول، وفريق آخر يحتفي بالوالي الجديد، ويحمل على الأكتاف. ولا تمر سوى فترة قصيرة، حتى يتكرر المشهد، والمعزول ينال سياط المحتجين، ووال آخر يرفع على الأكتاف. وتبقى معاناة الناس وهمومهم على ما هي عليه، من غير حل.

حضرت هذه القصة الطريفة في خاطري، والمشهد في ساحة التحرير، بقلب القاهرة، يعود إلى ما كان عليه قبل عامين. والحديث يعلو عن الديموقراطية والحداثة وكأنهما وصفتان سحريتان لحل جميع مشاكل مصر. والأمر ليس كذلك. فكرامة الإنسان ترتبط ابتداء بتلبية حاجاته الأساسية، من سكن وصحة وتعليم وكهرباء وحق في العمل. وهذه الحقوق ليست رفاهية، يمكن الاستغناء عنها، أو تأجيلها لصالح التحولات السياسية والديموقراطية، بما في ذلك نزاهة الانتخابات وتعديل الدستور وما يطلق عليه مجازا بالحكم الرشيد.

ذلك لا يعني، تنكرا من جانبنا، للدولة المدنية، ولا لحق الناس بالمشاركة في صنع القرارات المتعلقة بمستقبلهم، فتلك أمور أصبحت من بديهيات العصر الكوني الذي نحياه، ولكن أمر الحريات لا يستقيم مطلقا، مع غياب العدل الاجتماعي، وهيمنة الفقر والأمية، وانتشار العشوائيات، وارتفاع مستوى الجريمة، ووقف التنمية الصناعية والزراعية، وفتح الأبواب مشرعة للسلب والنهب.

لا يتحقق مستقبل مصر، في بقائها رهينة لصندوق النقد الدولي، وبقاء سيادتها ناقصة، على كامل أراضيها. مستقبل مصر، لا يتحقق بثورات برتقالية وبنفسجية، تلون فضاءاتها، دون بعثها للدفء والبهجة في نفوس الجياع والمعدمين، المتلفحين تحت الكباري بالأسمال.

وإذاً فليس الحل فقط في قيام الدولة المدنية، التي ترفع شعاري الديموقراطية والحداثة، ولكن أيضا في دولة العدل الاجتماعي، والمساواة في الحقوق، وسيادة القانون، وتوفير السكن والتأمين الصحي، وخروج الملايين من فقراء مصر من خط الفقر. وما لم يتحقق ذلك، فسوف يعيد التاريخ تمظهراته السابقة، التي شهدتها مصر في العامين السابقين، في أشكال وصيغ ربما تكون أسوأ بكثير مما شهدناه في انتفاضتي 25 يناير و30 يونيو. وما لم يتم تدارك ذلك سريعا، فربما يسبق الطوفان؟