لكل طريق معالم رئيسة يستدل بها التائهون حتى تعيدهم إلى مسارهم وأهدافهم، وفي طريق الإعلام معلم بارز ووثيقة أصدرها الملك – حفظه الله – في رمضان من عام 1432 توجه الوزارات والهيئات الحكومية بسرعة التجاوب مع وسائل الإعلام والرد فورا وفق ما لديها من معلومات، حيث نوهت تلك الوثيقة أن السكوت من قبل الأجهزة الحكومية يعني الإقرار بما ذكر في تلك الوسائل وتأكيدا له، وتترتب عليه آثار سلبية لا تقتصر على جهاز بعينه وإنما تتعداه إلى فقد الثقة بما تقدمه الدولة من خدمات للمواطنين.
هذه الوثيقة المرجعية تختصر مجلدات في تعريف المواطنة الإعلامية، وأسهمت في تشكيل جيل الشباب والشابات من كتاب الرأي لهذه الحقبة من تاريخ المملكة، فبعد أن كان السؤال في عصر مضى عن وجودية التأثير، أصبح الآن عن قياسه وتحديد كميته. نص وثيقة الملك تجاوز جدلية قديمة عن وجود "الآثار" لكتاب الرأي والإعلاميين، حتى وإن ما زال البعض عالقا في دوامتها، إلى المطالبة بالتفاعل معها وإلا فكيف تتم الاستجابة للمنعدم؟
ومع ذلك، فإن الحكمة ضالة المؤمن وقد تغيب عن كتاب الرأي والإعلاميين أبعاد لا يراها إلا من وصل منهم للضفة الأخرى من صناعة القرار كعضو مجلس الشورى الدكتورة لطيفة الشعلان والتي عادت للكتابة بمقال سيعيد ترتيب أوراق الإعلاميين وخاصة كتاب الرأي.
وقفت طويلا أمام كلمات خطتها الدكتورة في مقالها "هوامش على دفتر المرأة" في الشرق الأوسط وسأستعيرها هنا: "الحراك النسوي هنا لا أقصد به كتابات أو إعلانات صاخبة من تلك التي تظهر بين الفينة والأخرى في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. فهذه مع ما تحدثه من دوي وضجيج فإن مفاعيلها في التغيير منعدمة".
ووجدتني مضطرة أن أعتمر قبعتي الأكاديمية بحثا عن الأدوات التي استندت عليها الدكتورة في الوصول إلى خلاصة "انعدامية" تأثير وسائل الإعلام في التغيير، خاصة وأنها خلاصة خطيرة تنافي ما نصت عليه الوثيقة الملكية بوجود "آثار" لوسائل الإعلام وقدرتها على إحداث أكبر تغيير وهو فقدان المواطنين لثقتهم في خدمات القطاعات الحكومية غير المتفاعلة. لم أجد لهذه الأدوات ذكرا في المقال، فشددت الرحال لموقع التواصل الاجتماعي "تويتر" والذي يشارك فيه أعضاء المجلس الفاعلون المؤمنون بتأثيره وبقدرته على تمكينهم من التواصل مع المواطنين. وصلت وفي جعبتي عدة أسئلة: هل انعدامية التغيير خاصة بالإعلام النسوي أو الإعلام عموما؟ وفي كلتا الحالتين، ما هي الأدوات أو ما هي الأدلة الكمية أو النوعية على قياس عدمية التأثير والتغيير؟ وما إن هممت بالأسئلة حتى وجدت أن الزميلة الكاتبة فاطمة العتيبي قد سبقتني بها واكتفيت بقراءة الحوار بينهما بحثا عن الإجابات. ذكرت الدكتورة في حوارها الثري أن الاعتقاد بأن الكثير من القرارات هي نتاج للكتابات الصحفية هو مجرد مزحة بالنسبة لها، بما فيها كتاباتها أيضا، وهو ما يعد شجاعة أدبية منها وتوعية لكتاب الرأي لتصحيح مسار كتاباتهم، فلماذا نهدر الكلمات فيما لا أثر له بشهادة من تمكن من الوصول لتقارير قياس التأثير التي لا نملك امتياز الاطلاع عليها؟
ذكرت أيضا في حوارها أن المقصد الأساسي في مقالها هو العمل النسوي وليس الكتاب الصحفيين وتأثيرهم، إن كان لهم تأثير! مما أثبت فرضية أن المقال يمكن إسقاطه على أي مواطنة إعلامية، نسوية كانت أم غيرها. امتدت عدمية تأثير المواطنة الإعلامية لتشمل حتى مجلس الشورى، حيث ذكرت الدكتورة أنه جهاز حكومي كأي جهاز آخر، وبأن التأثير حتى الآن بيد الإرادة السياسية فقط. ولكن أوليست هذه الإرادة السياسية هي نفسها من طلبت في عدة مناسبات من الإعلام الجرأة وكشف وانتقاد كل مقصر؟
مقال الدكتورة لطيفة الشعلان المفصلي وحوارها الغني نبها على ضرورة توجيه دفة الكتابة الصحفية وقصرها على المطالبة بإقرار نظام المؤسسات والجمعيات الأهلية لإيجاد مجتمع مدني قانوني، فهي ذكرت أن ما سواه لا يعتبر حراكا ولا تأثير له، فلا جدوى من الإشارة لمواضع الخلل في القطاعات الخدمية ولاجدوى من إيصال صوت المواطن طالما أن شبه الحراك هذا يحصل عبر قنوات لا تملك القدرة الحقيقية على التأثير والمساندة في التغيير، بشهادة من كنا نعتقد أن مواطنتنا الإعلامية هي أحد أهم مفاعيل التغيير المساندة لهم.