لقد أوتي الملك عبدالعزيز رحمه الله قدرا كبيرا من حسن الفِراسة، مكنه من تدبير الأمور، بمزيد تبصر، وحسن فطنة، قل نظيرها. وقد شهد التاريخ بحوادث دلت على ذلك، ولنسق منها نموذجين، ولن يعدم الباحث كثيرا منها.

ففي ذات يوم هاجمت مجموعة من إحدى القبائل قافلة تجارية في الصحراء ونهبوها، فذهب المنهوبون إلى الملك عبدالعزيز، وأبلغوه بالحادث، فبادرهم قائلا: هل تعرفون الجناة؟

قالوا: لا.

قال: ألم تستنطقوهم، فتحددوا لهجتهم؟

قالوا: لم يتضح لنا شيء من ذلك.

قال: هل لاحظتم وسوم مطاياهم؟

قالوا: نعم، هو كذا وكذا.

فقال: هؤلاء من القبيلة الفلانية!

ثم أمر على الفور بإحضار شيخ القبيلة، وطلب منه إحضار المنهوبات والفاعلين في مدة محددة، وتم له ما أراد.

هذه الحادثة فضلا عن كونها دالة على حسن فراسة الملك عبدالعزيز، فهي تدل كذلك على تمكنه في معرفة القبائل.

نموذج آخر: فقد زار الملك عبدالعزيز وفد من العراق يترأسه نوري السعيد وزير الخارجية، بغرض التباحث في بعض القضايا المهمة؛ وكان من أهمها قضية الحدود، وقد حضر الأمير فيصل بن عبدالعزيز - وهو يشغل آنذاك منصب وزير الخارجية - ذلك الاجتماع، فقال الملك عبدالعزيز لنوري السعيد : ماذا تريد يا نوري؟ فشرح له نوري مهمته، فأمر الملك عبدالعزيز بإحضار دفتر وقلم، وأعطاهما لنوري السعيد، وقال له: اكتب ما تريد، وفيصل يوقع عليه، وبعد أن انتهى نوري أعطى الدفتر للأمير فيصل - رحمه الله - الذي أراد أن يقرأ ما كتبه نوري، لكن الملك عبدالعزيز أمره بالتوقيع دون قراءة! ووقع الأمير فيصل فعلا الوثيقة، ودفعها إلى نوري السعيد، وأخبره بأنه موافق على كل ما كتب، وبعد خروج نوري قال الملك عبدالعزيز - رحمه الله -: "لاحظت أنك انزعجت يا فيصل لعدم إلمامك بما في الوثيقة! إن نوري لم يحضر وهو يقصد الاتفاق بل أراد الخلاف؛ فلذلك كلفته كتابة ما يريده، وأمرتك بالتوقيع عليه، وإن تساهلنا معه هو الذي سيبعث في نفسه الريبة، وينقض ما وافق عليه، فاتركها تأتي منه".

وهذا ما حصل بالفعل؛ فبعد أن رجع نوري السعيد إلى بغداد عارض بعض بنود الاتفاقية.

هذه فِراسة المؤمن، وهذا هو الملك عبدالعزيز ؛ فلولا ثقته بالله أولا، ثم بنفسه، ولولا فراسته السياسية وذكاؤه، لم يأمر - بكل ثقة - بالتوقيع على اتفاقية - دون قراءتها، فضلا عن الإلمام بها، ومناقشة بنودها- وهي قد تكون فيما بعد سببا في ندمه.

إن هذا التعامل مع نوري السعيد وهذا الدهاء السياسي لدى الملك عبدالعزيز، لم يكن ليتأتى إلا بقوة إيمان الملك عبدالعزيز بالله تعالى، وحسن التزامه بطاعة ربه، وجودة ذهنه، وحدة قلبه، وتفكير متأن متبصر بعواقب الأمور، تلك السمة لازمته في جميع مواقفه.