قال تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتموا الصيام إلى الليل)، والأمر بالأكل والشرب هنا في شهر الصيام ليس معناه أن يتحول الشهر إلى أكل وشرب، بل هو بيان مواعيد الفطر والصيام ومتى يؤذن للإنسان أن يأكل ويشرب والحد الفاصل بين الفطر والإمساك.
كان المقصد الأعظم من شرعية الصيام في شهر رمضان المبارك أن يكون شهراً آخر يختلف عن بقية الشهور، شهر عبادة وتخفف من الأكل والشرب والتوجه إلى تصفية النفس وتزكيتها وتحقيق التقوى (لعلكم تتقون)، وليس المقصد منه أن يكون مجالاً للتنافس على أصناف المأكولات والمشروبات، فإن هذا خلاف المقصد الأساس من شرعيته، ولكن الواقع اختلف جداً حيث أصبح شهراً استهلاكياً بامتياز، ولربما صرفت فيه الأسر أضعاف ما تصرفه في أي شهر آخر، وهذا ناتج عن قصور في وعي معنى الشهر، أو تقليد للمجتمع الذي يمارس كثيراً من العادات دون وعي بالتصرف وهل هو صحيح أم خاطئ.
أحد عشر شهراً تمر علينا خلال العام ربما لم يصم فيها الإنسان تطوعاً واحداً، ولم يصل في الليل ركعة واحدة، مع ما فيها من تقصير في العبادات الواجبات من الصلاة وغيرها، فيأتي شهر رمضان ليكون فرصة سانحة لتجديد العهد مع هذه العبادات الفاضلات، فإن نحن أدركنا هذه القيمة العظيمة فسوف نستغل هذا الشهر، وإن كنا نرى أن هذا الشهر فرصة للتنويع من المآكل والمشارب وفرصة لمشاهدة ما جد من مسلسلات وأفلام وسهرات فعلينا أن نراجع مفاهيمنا حول شهر الصوم، وللأسف فإن القنوات الفضائية رسخت هذه المفاهيم للشهر من خلال إحالته إلى مهرجان فني تقدم فيه كل جديد فتقضي على هيبة رمضان (الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان).
كان النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن عباس: "أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود في الخير من الريح المرسلة"، استشعاراً من النبي عليه السلام بعظمة الشهر وخصوصيته بين أشهر السنة، فيضاعف أعماله الخيرة فيه، ويتسابق إلى الطاعات ويتصدق ويعتكف ويصلي الليل وهو المعصوم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو بهذا يرسم سنة لأمته من بعده لتدرك ما معنى شهر رمضان وماذا يجب على العبد فيه، فهو ليس شهراً للإمساك عن الطعام والشراب فـ"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، بل هو شهر تربية للنفس على الصبر والمصابرة، وتدبر معاني القرآن والقرب منه، والتخفف من أوضار الدنيا واللهاث فيها، حتى يحقق المقصد والغاية "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".