لأن الحكم مرتبط بواقع الكيان، والكيانات القائمة الآن هي كيانات يحكمها نموذج الدولة الحديثة ذات الحدود والسيادة والاقتصاد والمواطنين والأنظمة، يصبح الهدف الأول والمرتكز الأساس للحكم هو تحقيق المصلحة، تلك المصلحة التي تدور حول حماية حدود هذا الكيان وأمنه واستقراره واقتصاده، وتحقيق قيم المواطنة التي تقوم على العدل والحرية والمساواة، وأن تكون الأنظمة والتشريعات منطلقة من كل ذلك وقائمة على القيم الثقافية العليا لكل كيان من قيم دينية واجتماعية، لأن هذا الواقع الحالي للدولة الحديثة، تبدأ هنا نقاط الصدام بين فكرة الجماعة الإسلامية مقابل فكرة الدولة.
تحقيق مصالح الدولة إذن يستلزم الإيمان بحزمة من القيم يمثل الوطن مرجعيتها الأولى والمحفز الأبرز لخلقها، انطلاقا من العوامل التي قام عليها المجتمع دينيا وأخلاقيا وثقافيا وتاريخيا، هذا يستلزم بالضرورة أن تكون أفكار مثل الوحدة والمساواة والمصلحة العامة أفكارا أولية، وهو ما لا يوجد لدى الجماعات الإسلامية، فتعريف الجماعات الإسلامية للمصلحة ينطلق من وعيها الأيديولوجي لا من وعيها الوطني، وفكرة الجماعة تغلب على فكرة الوطن، والأهداف لا تتعلق بالواقع بل تتعلق بأفكار وشعارات مطلقة، كالشعارات القومية أو الشعارات الدينية والأممية. وكل ما تنتجه هذه الشعارات لا يصنع تنمية ولا يغير واقعا ولا يحقق استقرارا.
في العصر الحديث، كانت التجربة الأبرز للجماعة حين تتولى الدولة هي تجربة جماعة طالبان، التي تمثل بالفعل نموذجا يمكن من خلاله قراءة لماذا لا تستطيع الجماعة الإسلامية الحكم في دولة حديثة. أول نقاط الصدام التي وقعت فيها الجماعة هي عدم قدرتها على الملاءمة بين شكل الجماعة وشكل الدولة، وعدم قدرتها على التفريق بين الولاء للدولة والولاء للجماعة، وهما ضدان فعلا؛ فالولاء للجماعة ـ وهو المقدم بالنسبة لهم ـ لا يمكن أن يصنع شيئا في صالح الدولة، والولاء للدولة من شأنه أن يذيب الجماعة. ولاءات الجماعات الإسلامية التي تنطلق من رؤية دينية متشددة وفئوية هي في الغالب تؤدي إلى صدام حتمي مع الداخل ومع الخارج، لأن من أبرز مكونات الدولة الحديثة التنوع والتعدد، وهو ما لا تستطيع أن تقبله الجماعات الإسلامية.
هل تلك الجماعة ناجحة فيما عدا الدولة؟ نعم، لأن العمل في مرحلة ما قبل الدولة عمل يقوم على الاختيار وسيادة مفهوم الانتماء للجماعة وتعزيزه، وهو غير مضطر لقبول جماعات أو انتماءات أخرى داخل الجماعة.
لم تلبث تجربة طالبان أن انهارت فورا، لقد اشتبكت مع الداخل لأنه لا ينتمي إليها مع أنه ينتمي إلى الأرض التي تحكمها الجماعة، لكن انتماءات الأرض والوطنية لا مكان لها لدى مثل تلك الجماعات، أيضا ما لبثت أن اشتبكت مع العالم وتحولت لتصبح عبئا عليه وعلى استقراره، لأن معايير العمل المشترك والمصالح المشتركة تختلف لدى الجماعات الإسلامية عما لدى بقية دول العالم الحديثة.
من السهل جدا أن يعترض أحد على ما سبق بالنموذج الإيراني، كيف استطاع أن يبقى برغم أنه يمثل نظاما مشابها، في الواقع الحالة الإيرانية تختلف على مستوى شكل الكيان لا على مستوى الرؤية والفكر، فإيران دولة ثيوقراطية بامتياز والحكم فيها للولي الفقيه، لكن الحكم في إيران قائم على هيئة نظام وليس على هيئة جماعة، وهو ربما يمثل العامل الذي ما زال يحافظ على استمرار نظام الملالي، رغم التأرجح المستمر الذي يعيشه تحت ضربات العقوبات الدولية وتحت ضربات الاحتجاجات الداخلية.
كل تلك الأخطاء وتلك العيوب التي تحاصر الجماعات الإسلامية، كلها وبلا استثناء تظهر جليا في جماعة الإخوان المسلمين، ثمانون سنة من البقاء كجماعة، حققت بعض الإنجازات ومثلت حضورا مهما في الشارع المصري، وفي بعض أوساط التجمعات الدينية في أكثر من منطقة في العالم العربي والإسلامي.
تصلح الجماعات الإسلامية الحركية لإدارة مؤسسة خيرية أو رحلة دعوية أو مركز صيفي أو مكتبة خيرية، لكنها إذا أرادت أن تبقى جماعة فلن تكون صالحة لإدارة دولة حديثة، وإذا أرادت أن تدير دولة حديثة فلا يمكن لها أن تظل جماعة، هذا ما فعله الإخوان المسلمون في مصر، لقد أرادوا تحويل الدولة إلى مجرد ملف من ملفات الجماعة، فانتفض الشارع ليستعيد الدولة من الجماعة.