خلال قرن مضى من الزمن، ظهرت في التجربة العربية الشاملة على رأس أنظمة الحكم أربعة نماذج أساسية، وكلها برصد الواقع تزدهر وتنمو دون أن تدرك أنها تحمل في طيات أدبياتها السياسية ما كان كفيلاً برفض هذه الأنظمة ووأد تجربتها لسبب بسيط: لأن قرنا كاملا من الزمن لم يعلمها حتى ما كان بدهياً جوهرياً أن تستفيد من عوامل نهوض ثم سقوط هذه الأنظمة. لم يدرك أي من هذه النماذج الأربعة من (أغطية) كراسي الحكم العليا في عالمنا العربي أن الفيروس القاتل الذي أسقط الأنموذج الذي سبقه ليس إلا (داء) العزل والإقصاء لبقية سواد المجتمعات المحكومة ونظرة الشك الدائمة إلى الخصوم والمناوئين وسحق فكرة المعارضة لا بوصف المعارضة بديلاً محتملاً في العرف الديموقراطي، بل لأن هذه النماذج تؤمن أن المعارضة كفر (بالمعنى المجازي) لثوابت ومنطلقات الأنموذج السياسي الحاكم المسيطر على الكرسي وعلى الزمن والفترة.
خلال قرن كامل من الزمن، جرب هذا العالم العربي في الغطاء السياسي الأعلى لنماذج الحكم أربع أفكار متباينة، وبكل تأكيد فإن بين هذه النماذج شذرات متقطعة من نماذج أخرى شاردة بين الكتل الرئيسة الأربع. قبل قرن من الزمن، تزيد أو تنقص في جغرافيات عربية، تناوب هذا العالم العربي على التوالي: أنظمة القومية العربية، ثم الناصرية، وبعدها البعثية، وأخيراً نماذج حركات الإسلام السياسي، وبالطبع لم يكن لأنموذج واحد منها أن يكون الغطاء الشامل للخريطة العربية بأكملها، ولكنه بكل تأكيد هو (الأنموذج) السائد أدبياً وثقافياً في زمنه وأكثر قوة ودفعاً حتى ولو اقتصر حكم الأنموذج نفسه على خريطة جغرافية محددة. في الأنموذج الأول، وهو الأنموذج القومي الناهض من بين براثن الاستعمار الطويل، اتكأ هذا الأنموذج على تيارات اليسار العربي والحركات الاشتراكية ذات الدفع والدافع العولمي في حينها دون أن يتعلم هذا الأنموذج من أنظمة الحكم أن اليسار والاشتراكية مجرد أفكار نخبوية لا تمثل من الشريحة الشعبوية العامة على الخريطة العربية سوى نزر (نخبوي).
أيضاً: وهذه النخبة من الأنموذج الأعلى في الفكرة القومية بذراعيها من اليسار والاشتراكية لا تمثل في الشبه سوى (زناد الأمان) على فوهة قنبلة قابلة للانفجار في أية لحظة. حكم المد القومي العروبي لعقود في بلدان عربية مختلفة وهو يعلم أنه، (بالعزل والإقصاء) إنما يحكم قنبلة موقوتة لا تمثل فيها النخبة من الشعوب سوى ما يمثله الزناد من حجم القنبلة. وبذات فيروس وداء الإقصاء والعزل جاءت الفكرة الناصرية من الأنموذج على ذات الصورة التي كانت هجيناً مشوهاً لأفكار تقدمية من القومية.
وفي الناصرية أيضاً تبدو الصورة واضحة في صلب خطابات الزعيم الملهم المؤسس الذي لم ير من حلم (القومية) إلا اكتساحا لطبيعة الشارع العربي وفطرته، فكانت الناصرية مثل (صنوها) المشوه من (البعث العربي) لا ترى في طبيعة الشارع (المسلمة) إلا قوة معادية لشعوب كاملة لم تفهم معنى (القومية) بحسب رؤية صاحب النظرية من (النخبة) التي رأت أن من واجبها إعادة تربية شعوب كاملة على عقيدة جديدة. وفي ذات الظروف أو بها، وما فيها من العزل والإقصاء ومعاداة الجمهور العمومي من القاعدة العربية الشاملة صارت أيضاً حركات الإسلام السياسي شيئا من خيالات (الفرقة الناجية) التي تؤمن أيضاً بذات ما آمنت به أفكار القومية والناصرية والبعثية في ضرورة إعادة تربية الشعوب كي تؤمن بالنظرية. وفي الثابت المشترك ما بين هذه النماذج الأربعة التي أسقطتها فطرة الشعوب واحدة بعد الأخرى تبدو الروابط المشتركة: كل هذه النماذج تؤمن أنها عابرة للمجتمعات والدول والشعوب، وأن عليها في المدى الاستراتيجي الأبعد أن تفرض أنموذجها بالتربية على الجميع، وهو خطأ فادح في النظرية السياسية. وفي المشترك الثاني بين هذه النماذج الأربعة هو اشتراكها في حكم (المجلس) النخبوي السري الذي يقرر لشعوب كاملة (كتالوج) المستقبل عطفاً على رؤية النخبة: من القيادة القطرية المقفلة حتى مكتب الإرشاد الحديدي. إيمان هذه النماذج باستثنائية الفرد وعبقريته: من عبدالناصر، الزعيم الأوحد إلى عفلق، رداء البعث الأعلى، وإلى مرشد الجماعة الذي تقول الجماعة نفسها له: إن على الشعوب مجرد السمع والطاعة.
والخلاصة في لقطة موجزة: أن هذه النماذج من أنظمة الحكم، ومن تباينات القومية إلى فصائل الإسلام السياسي لم تستوعب على مدار التاريخ القصير، ولا حتى المطول منه ذلك الفيروس الذي قتل كل أنموذج: أنموذج الإقصاء وطريقة الاستبداد (النخبوي) على رغم أنف المجموع. كلها تتشدق بلفظ الديموقراطية بينما تنظر للمعارضة على أنها العدو. القومي يريد أن يمتحن الجماهير العريضة في (دمها) وقياساته لمسطرة الانتماء إلى العرق وتعصبه له، والإسلاموي يريد أيضاً أن يمتحن ذات الجماهير في إسلامها وفي قياساته لمسطرة تعريفه للدين ورؤيته له. نسي الفريقان، القومي والإسلاموي، أنهم نخب متصدعة إلى عشرات الفرق والنماذج، ورغم هذا الخلل الواضح، يطلبان من الشعوب أن يكونوا (لوناً) واحداً وتعريفاً واحداً بينما النخب نفسها عشرات الألوان وأضعافها من التعريف.