على مدار عام كامل عشنا وعاشت مصر فصولا مسرحية هزلية، ضحكنا خلالها قليلاً وتألمنا معظم الوقت.. ثم أخذت المسرحية تكتسب صفة السوداوية حين احمرّت وجوه الممثلين من الغضب بسبب ضحكات الجمهور، ولم يُدرك الجمهور أن سبب هذا الغضب هو ألا أحد فوق خشبة المسرح كان يُمثِل، إنما كان الكل يتصرف على سجيته، وفي المقابل لم يُدرك الممثلون أن الجمهور يجهل هذه الحقيقة.. يستمر الوضع هكذا إلى أن تقطع ضحكات الجمهور صيحات غضب جادة: اصمتوا.. فأنا هنا أمثِل الإسلام! وقبل إسدال الستار يُصدم الجمهور عندما يكتشف أن الهدف من المسرحية لم يكن إضحاكهم إنما الضحك على عقولهم!
في الحقيقة أنا لا أفهم في السياسة ومدلولاتها، فهذا شأن له باحثوه.. ولست هنا للحديث عن مسألة تطويع الدين لخدمة السياسة، وما ينتج عن هذا التطويع من تشويه في كل الاتجاهات، لكن سأتحدث بصفتي أحد الذين حضروا المسرحية الإخوانية على مدار عام كامل، مسرحية شاهدت خلالها عشرات المقاطع والبرامج الإعلامية التي لم تكن تعرض سوى عبارات شتم فاضح وقذف صريح وتخوين واتهام بالعمالة، بالإضافة إلى عمليات تكفير شبه يومية، يرافق كل هذا الكم من الفُحش في القول والفعل، ضعف سياسي وغياب تام للحكمة والحِنكة، وأسوأ ما في الأمر أن يكون عنوان هذه المسرحية الفوضوية بكل معنى الكلمة هو الإسلام!
لكن ومن باب الأمانة، يجب الاعتراف بأن المسرحية الإخوانية لم تعرض مشاهد دخيلة على ثقافتنا العربية - وهذا ما سبب لنا صدمة في الحقيقة - فالمشاهد كلها كانت تعتمد على إبراز التدهور الأخلاقي الذي يسري على كامل الثقافة العربية.. وكعادتنا دائماً حين نُصاب بالصدمات، لا نبحث عن مواضع الخلل لإيجاد الحلول، إنما ننبري شتماً وانتقاصاً لمن يُسلِط الضوء على عيوبنا، ونحن بهذا الأسلوب في التعامل مع عيوبنا ننطلق من مبدأ أفضليتنا الذي عشش داخل ثقافتنا، ولهذا فإن المسألة مسألة وقت فقط حتى تبرز جماعة أخرى لتُعيد عرض نفس المسرحية بنفس المشاهد، مع تغيير طاقم التمثيل والعنوان.
إذاً علينا الاعتراف يا سادة بأن المسرحية الإخوانية ليست إلا انعكاساً للثقافة العربية عموماً، فكلنا لا نُطِيق بعضنا بعضا، ونُمارس إقصاء بعضنا بعضا، تارة باسم الدين، وتارة باسم التنوير، وأخرى لأسباب تاريخية أو جغرافية أو مذهبية أو أي ذرائع أخرى.. نطالب بمحاسبة الآخرين لكننا نتجاهل محاسبة الذات.. نطالب بحرية الرأي لكننا نشترط ألا يخرج أي رأي عن السائد. كلنا إذا ما أردنا الاستنكار على البذيء فنستنكر عليه ببذاءة أشد، ونقابل تكفيره لنا بأن نلقي به أسفل سافلين. ويبلغ سوء ثقافتنا مداه حين نُغلف كل هذا باسم الإسلام.
نعم كلنا إخوان.. ثقافة المؤامرة الإخوانية واتهام الفلول والتيارات الأخرى بالتآمر عليهم ليل نهار، أليست نسخة طبق الأصل من ادعاءاتنا بأن الغرب والمجوس والصهاينة يتآمرون علينا؟ إن جماعة الإخوان لم يفعلوا شيئاً خلال العام الفائت إلا أنهم أظهروا ما هو موجود داخلنا إلى العلن وفي وسائل الإعلام. لست هنا لأدافع عن "الإخوان"، الذين سقطوا منذ توليهم الحُكم وليس عند عزلهم، لكن لأقول إننا في حاجة إلى "تمرد" على ثقافتنا العربية المُثخَنة بالجراح، تمرد ينزع القداسة والحصانة عن أي معتقد أو مذهب أو تيار، أو شخص جلس وتربع داخل دائرة القداسة بكل أقواله وأفعاله. علينا أن نحشر كل ما احتوته ثقافتنا تحت المجهر لنتفحصه بشكل علمي عقلاني مُتجرِد حُر، حينها سنكشف عن العديد من الأساطير والسخافات والجهل المُقدس، وسنكشف تِباعاً عن الكثير من العقول السّادية والنفسيات المشوهة التي تلحفت زوراً بهالات القداسة. يجب أن نستيقظ ونعلم أسباب تدهور ثقافتنا إلى هذا الحد. يجب أن نستفيق من غيبوبتنا ونفتح أعيننا لنرى المقدار المخزي الذى تحتويه ثقافتنا من فوضى وانحطاط، ونتساءل عن الذين زرعوا كل هذا الجهل والنفاق والدجل فينا سواء كانوا أشخاصاً أو ظروفا.
في الأخير.. من يتأمل ما حدث في مصر وعلى اختلاف التفاسير والنظريات سيصل إلى نتيجة قال بها الكثير من العقلاء، نتيجة أن الإخوان بأنفسهم وبكل ما سببوه من فوضى ليسوا إلا نتيجة حتمية الوقوع في ظل هذه الثقافة الغارقة في السوء، نتيجة ستتكرر ربما بضرر أكبر، طالما نحن لا نلوم أنفسنا ونكتفي بإلقاء اللوم على الإخوان. ولنختم بسؤال: من يحق له أن يحاكم إذا كان الكل متهما؟