هناك أمراض ثقافية نشأت بسبب الفهم الخاطئ للمصطلحات.

في ما يتعلق بالإعلام وعندما يدور النقاش أو الجدل حول وسيلة إعلامية سيظهر لك مصطلح (الحياد) مائة مرة.. نريد من جميع الفضائيات والصحف أن تكون محايدة، وفي كل القضايا! هذا عبث، أو اختلال، أو ترف فكري.. أو سمه ما شئت.. هناك فرق بين المهنية وبين الحياد، ولكن الجماهير -بل وبعض النخب أحيانا- لا تفرق بين هذين المصطلحين.

كمثال؛ الإعلامي العربي في الغالب لا يستطيع أن يكون محايدا في القضية الفلسطينية، وما ينبغي له ذلك، لأنه يعرف أن إسرائيل -بكل بساطة- دولة محتلة وغير شرعية، رغما عن أنف كل المنظمات الدولية، لكنه يستطيع أن يكون مهنيا بكل ما تعني الكلمة في نشر الخبر الموثوق، والتأكد من مصادره، وأخذ الآراء المختلفة حوله.. بينما الإعلامي في هولندا أو هونغ كونغ يرى أن الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين لا يختلف عنه بين الكوريتين الشمالية والجنوبية، لأن الأمر لا يعنيه كثيرا، وإن لم يكن محايدا ربما انحاز إلى أحد الطرفين، الكيان المغتصب، أو الشعب المظلوم.

في الولايات المتحدة ترفض معظم الفضائيات نشر أخبار أو صور أو مقابلات المفكر وعالم الألسنيات نعوم تشومسكي، بسبب آرائه وتحليلاته للأطر العامة للسياسة الأميركية، منذ حرب فيتنام وحتى الآن. هذه القنوات وبعض الصحف التي لا تطيق "تشومسكي" ليست حكومية، لكن مصالحها تتقاطع مع مصالح الحكومة أو الأحزاب السياسية، غير أن هذه القنوات في الغالب لا تستطيع أن تتقول على "تشومسكي" ما لم يقل، أو تبث عنه الشائعات.. هي قنوات موجهة، وليست محايدة على الدوام وفي كل القضايا، لكن مهنيتها عالية، وهذا هو المهم.

بعد ما حدث في مصر؛ من حق كل الأحزاب والتيارات أن تكون صوتا لأتباعها، وأن تسعى لإيصال رسالتها إعلاميا، هذا التدافع الإعلامي سيعود بالنفع على الجميع، لكن بشرط المهنية، أما التوجه العام فهو حق لكل مؤسسة إعلامية. وأخيرا: لا يوجد حياد تام، بل مهنية عالية، وغير مكتملة.