أختار مكاناً وسطاً بين أهرامات مصر لعلي أقف على جزء من الحقيقة أو أجد جذوة من نار تهدي إلى الإنصاف في قراءة غليان يغمر العرب والعالم بتأثيراته، وينقل الانقسام الحاد من ساحات مصر إلى كل لحظة تأمل يمضيها الإنسان مع نفسه، وإلى كل مكان تتداول فيه مجتمعات وشعوب الأرض شؤون حيواتها وشجون العواصف المحتدمة في جنباتها.

وكنت قبل عام ونصف تقريباً دعوت عبر "الوطن" إلى عدم التسرع في إطلاق الأحكام الجاهزة ضد مخرجات الشوط الأول من دوري الربيع القائظ لمجرد الامتعاض من تصدر تيار الإخوان المسلمين نتائج المشهد الثوري وبلوغهم بهذا القدر أو ذاك سدة الحكم، كما انتهت إليه ثورة 25 يناير 2011 غداة تسلم الرئيس السابق د. محمد مرسي مقاليد السلطة.

كنت - يومئذ - أرى أن التخويف من الإخوان انطلاقاً من تقويماتنا لبعض تجاربهم المريرة وشيء من محدداتهم النظرية السابقة ينطوي على حيف، وينبع من إحساس القوى الأخرى بمكامن ضعفها عن امتلاك نفس الجاهزيات التنظيمية والحركية التي كشفتها أداءات الجماعة في ساحات الثورة ضد مبارك وبن علي وصالح والقذافي.. وأن علينا النظر إلى تجربة جماعات الإسلام السياسي، اعتباراً من ضحوات التمكين وطبيعة ممارساتهم سلطات الدولة، خاصة أنهم بلغوا هذا الحق عن طريق صناديق الاقتراع لا بعيارات الإسلامبولي، ولا عن طريق تعبيرات الإمام الشهيد سيد قطب المقترنة بظروف الاعتقال وعدوانية صلاح نصر وأمثاله.

وبداية نرى أن عاماً واحداً من أربع سنوات لولاية مرسي لا يكفي لتقييم تجربة إدارية متواضعة في عزبة من أحياء السويس، فكيف إن كانت المسألة قيادة مصر.. كل مصر بسكانها الـ90 مليونا ومؤسساتها الأكثر عراقة ونخبها الأرجح مكانة، ودورها الأشد أهمية وحساسية؟ كما أن اتجاه الإخوان المسلمين صوب الخيار الديموقراطي وقبولهم الاحتكام لصناديق الاقتراع لا تقتصر أهميته على دواعي الاستقرار وتماسك الأرضية التي تستوعب شراكة المختلف والمؤتلف من القوى والأحزاب السياسية والتيارات والمذاهب والمعتقدات الفكرية، لكنه إحدى ضرورات المصالحات الوطنية وتعزيز فرص الانفتاح على قيم العصر وتحديات الحداثة.

وضع الصندوق أمامهم فسلكوا طريقه ونالوا الوطر منه، وقد أتيح الحق ذاته لأطراف محسوبة على قوى الثورة وأخرى تحوم الشكوك حول ارتباطها بنظام مبارك، ومع ذلك تبارى الجميع واعترفوا بالنتائج، ولم تصل ملاحظات أي منهم لمجرياتها مستوى موضوعياً يجيز نتائج الاقتراع، زد على ذلك أن الديموقراطية والعسكر خطان متوازيان لا يجتمعان إلاّ على إطلالة الاستبداد.. ومن هذه الناحية لا تسعفنا اللغة بمصطلح آخر ـ غير الانقلاب ـ يوصف تدخل القوات المسلحة المصرية للتطويح بمرسي!! وقبل هذا فإن الأسباب الداعية لتدخل الجيش لا تبرر إجراءاته المتخذة ناحية مرسي.. فإذا كان الاعتقال خارج القانون والإخفاء القسري قد حدث لرئيس خانته الخبرة في الدفاع عن شرعيته، فعلى أي شاكلة يكون حظ المواطنين من الاستقرار النفسي والحماية القانونية؟ وكيف تكون ممارسات الإخوان موضع اعتراض الجماهير، بينما تحظى الجماعات الأكثر تشدداً بقدر فائق من الحفاوة والتدليل؟

غير أن السؤال الملح في راهن الأحداث: هل نحن بصدد موقف من الإسلام هوية وشريعة وتاريخاً وضاء أم إن الاختلاف يكمن في السياسة؟ وطالما كان هذا صحيحاً فإن إخوان مصر خطاؤون ولديهم القدرة على إكمال النص المقتبس من الحديث. إن التأمل العميق في الوجه الموازي لأحداث مصر ينسف تلك المحصلة التي أسلفنا الحديث عنها ويبني على أنقاضها حقيقة، بل جملة من الحقائق الأقرب إلى معايشة الواقع لا الاستقواء بالديموقراطية بنية الانقضاض على أسسها والخروج على منطلقاتها وضوابط وشروط ممارستها.

وليس مبالغة القول إن إخوان مصر وبلدان الربيع المتعددة مارسوا من الخطايا ما يفوق الأخطاء، وهم اليوم أو بعد حين سيعضون أصابع الندم على تباهيهم بالموقف الأميركي، وقطعاً لم ينبئ تعاطيهم مع تصريحات الرئيس أوباما عن عمق سياسي قدر كونه نكثاً لعرى الوطنية والدين..

كيف يكون تدخل العسكر مرفوضاً والوصاية الخارجية روشته طبية ناجعة؟ وأي أنماط الديموقراطية وصناديقها المحترمة أدعى لمساندة أميركا؟ ألم يكن هذا شأنها مع صناديق مبارك وصالح وبن علي التي أفرغت الديموقراطية من محتواها طوال عشرات السنين؟

وعلى صعيد خطايا الجماعة بدت سياسات مرسي نقيضاً لشرعيته الديموقراطية التي استهلها بتحصين قراراته وكأنه في صراع مع فطرة البشر، بل إن طريقة الجماعة في التعامل مع العقد الاجتماعي مثّلت حالة تقاطع وافتراق مع ثوابت الديموقراطية وضوابط العلاقة التعاقدية بين الحاكم وجمهور الناخبين، أي أن ممارسة مهام الحكم لم تعد قائمة على الشراكة في تحديد ماهية الاتجاهات الدستورية الكفيلة بضبط إيقاع الحياة والتوازن بين الحق والواجب.. ولئن كان الطوفان الشعبي على ساحات 30 يونيو جعل من الأعداد حجته الفضلى خلافاً لمعايير الفصل بين المنافسات السياسية على الحكم فإن الإخوان -والإخوان فقط- وفروا الأدلة القاطعة على حتمية وعدالة الخروج ضد الرئيس، إذ انساق خطابهم السياسي لفكر المغالبة ودولة الخلافة ما ينفي المشروعية من أساسها، ويجعل مسألة الظهور باسمها عملاً تنكرياً لا مكان له في كل الرئاسات المصرية مذ ثورة يوليو المباركة.

وتأتي الخطايا الجسيمة تلك بالتزامن مع أخطاء فادحة نجمت عن الاشتغال بتدابير دولة الخلافة على حساب مصالح المجتمع واقتصادات الدولة لينفجر طوفان الغضب في مواجهة رئيس يسبح في معمعة التأصيل الديني ويعجز عن التقاط زمام المبادرة، فلا هو اعتبر تدخل الجيش مساساً بسلطاته واستعمل صلاحياته الدستورية لوقف ما يعتبره تدخلاً، ولا هو قَدَّم للجماهير المحتشدة مبادرة معقولة وإن في حدود إحالة مطالبتها بانتخابات رئاسية مبكرة على طاولة حوار وطني ريثما يتمكن من كسر حواجز القطيعة مع الأطراف المناهضة! وهنا لم يتبق في يده سوى خياري العنف واستعداء الخارج ضد انقلاب العسكر، وهما خياران كل منهما أسوأ من الآخر فالأول جربته الجماعة في الجزائر ودفعت ضريبته دون الحصول على مردود يذكر، أما الثاني فلم نر من الجيش المصري انقلاباً يحمل السيسي إلى الرئاسة، قدر كونه ملأ خواء مؤسسة الحكم وقدم درساً في الوطنية ووقف في صف الجماهير دون واعز من مصلحة ذاتية، ولهذا تبدو مظاهر الفتوة واستخدامات السلاح خاصية تعسكر عند الجماعة مثلما هي ـ في حالة السيسي ـ لياقة الفارس لحماية مواطنيه والحفاظ على الأمن القومي بوصفه ضرورة حياة.