أدى رفض أنقرة فتح جبهة ضد العراق عبر الأراضي التركية بعد الغزو الأميركي للعراق في 2003 إلى إزعاج واشنطن، لكن رغبة أميركا في تشجيع أنقرة على لعب دور بناء في توحيد الفصائل العراقية وبناء علاقة تركية جديدة مع "حكومة إقليم كردستان" ساعدت على رأب الصدع بين البلدين في 2007. ولكن منذ عام 2008، بدأ التعاطي التركي مع العراق ينحرف عن خطة الولايات المتحدة، مما أدى إلى تعميق المخاوف في واشنطن. ويقول تقرير نشره "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" في فبراير المنصرم إن أهداف واشنطن وأنقرة في العراق متطابقة تقريباً. فكلتا الحكومتين ترغبان في تفادي وقوع أي صدام عسكري بين بغداد و"حكومة إقليم كردستان" بأي ثمن، ويرى الفريقان أن وحدة الأراضي العراقية تعتبر ركنا أساسياً لاستقرار المنطقة. كما ترغب الحكومتان أيضاً في تدفق المزيد من النفط العراقي إلى شمال البلاد بعيداً عن الساحل الإيراني في الخليج االعربي وتجاه مرافئ التصدير الضخمة على السواحل التركية المطلة على البحر المتوسط للمساعدة في الحفاظ على انخفاض أسعار النفط، فضلاً عن تسهيل نجاح العقوبات المفروضة على إيران.
نقاط الخلاف
في عامي 2009 و2010، أسفرت محاولة نوري المالكي للفوز بفترة ولاية ثانية عن حدوث تباعد بين السياسة الأميركية والتركية. فقد عارضت أنقرة إعادة تعيينه مما أدى إلى إفساد علاقتها معه منذ اليوم الأول من ولايته الجديدة، في الوقت الذي تبنَّت فيه واشنطن منهجاً أكثر سلبية واستمرت في التعاون معه، بينما بدأت القوات الأميركية بالانسحاب من العراق.
ويتلخص الحل التركي للأزمة السياسية العراقية المستمرة في إقامة دولة اتحادية قوية تقوم على تفسير الدستور على نحو يصب في صالح "حكومة إقليم كردستان" وغيرها من الأقاليم ويعطيها الأفضلية على الحكومة المركزية. وقد وسَّعت تركيا أيضاً تعاونها مع أربيل في مجال الطاقة منذ عام 2012، وقد شمل ذلك إبرام صفقات تبادل للنفط الخام الذي تنتجه حكومة إقليم كردستان بمنتجات تركية مكررة مثل زيت التدفئة. ومن المرجَّح أن تشمل خطوة أنقرة التالية مشاركة مباشرة في قطاع النفط والغاز الفائض لحكومة إقليم كردستان، بالإضافة إلى قيام شركة نفط تركية تابعة للدولة بضخ استثمارات في مناطق الامتيازات داخل إقليم كردستان العراقي.
ونظراً لاعتراض بغداد على هذه الصفقات ووصفها لها بأنها غير قانونية، فقد أعربت واشنطن عن قلقها بشأن تجاوز تركيا للحكومة المركزية. لكن أنقرة رفضت هذه المخاوف مستندة إلى قراءتها للدستور العراقي ووجود العديد من شركات النفط الأميركية في حكومة إقليم كردستان. ويتلخص الموقف الأميركي في أن تصدير النفط العراقي دون موافقة بغداد هو في الواقع أمر غير قانوني.
تبعات سياسة أميركية
تعلم أنقرة وواشنطن أن كلتيهما تنتقدان سياسات الآخر تجاه العراق. وعلى وجه الخصوص، كان بمقدور الولايات المتحدة فعل المزيد لكبح جماح المالكي على مدار السنوات القليلة الماضية، كما اتضح من نجاحها في تعبئة النفوذ الدبلوماسي لمنعه من استخدام القوة ضد منافسه السياسي رافع العيساوي في ديسمبر 2012. ومن خلال الاعتماد على التشجيع من هذا النجاح، ينبغي على واشنطن فعل المزيد لدعوة المالكي إلى عدم المواظبة في خطواته السلطوية المستمرة. كما ينبغي عليها التراجع قليلاً فيما يتعلق بمسألة الاستثمار التركي في الامتيازات النفطية الكردية مع تمييز الأوقات التي تهدد فيها بغداد باتخاذ خطوات تصعيدية لإظهار نفوذها مثلما فعلت منذ دخول شركة "إكسون موبيل" السوق في حكومة إقليم كردستان قبل 16 شهراً مضت.
وفي مقابل تقديم تنازلات حول هذه القضايا، من المرجَّح أن تجد واشنطن شريكاً هادئاً وشاكراً في تركيا، ويمكنها حينذاك استخدام هذه النوايا الحسنة لتحقيق العديد من الأهداف. أولاً، يمكنها أن تعزز من التردد المبرر من جانب أنقرة بشأن تنفيذ اتفاقيات خطوط أنابيب مباشرة مع حكومة إقليم كردستان في هذه المرحلة الحاسمة. ثانياً، يمكنها تشجيع الجهود التركية المتجددة لمساعدة الفصائل العراقية التي تشمل الأكراد أيضاً، في مسعاها البرلماني لاستصدار تشريع اتحادي خاص بتقاسم النفط والإيرادات. ويُعتبر تمرير قانون محدد المدة عبر أغلبية من المعارضة في 26 يناير - والجهود اللاحقة للحيلولة دون رفض هذا القانون من قبل المحكمة العليا - من البوادر المشجعة على أن الوعي البرلماني في العراق يشهد حراكاً ويمكن تقويته وتعزيزه. كما أن إحياء النقاش حول تشريع جديد لتقاسم النفط والغاز، والإيرادات أيضاً يمكن أن يساعد على التقريب بين الفصائل للوصول إلى اتفاق جذري بشأن قضايا الطاقة وتحقيق قدر أكبر من اللامركزية المالية. وباختصار، إذا دققت كل من واشنطن وتركيا في التفاصيل، فسوف تدركان أن مواقفهما ليست متباعدة كما تبدو.