التفت ببطء وهدوء إلى الخلف: إلي، قادم غريب، وإلى آخر خيوط الشمس الصفراء، ترسل مع مطلع الشفق نفس (الحزمة) التي اعتادت أن ترسلها إلى قسمات وجهه منذ تسعين سنة. وجه مربع صغير كلوحة أسطورية مثل حجم الكف، ومرة أخرى ما زالت في (المرسم) منذ تسعة عقود، وكل عقد وكل سنة تأخذ شيئا من ألوانها القديمة حتى أصبح الوجه مثل تفاحة مهجورة فوق صخرة جافة. من أعلى الجبل الصخري وقف يتأمل آخر التراتيل حصون قريته وقلاعها وقد نامت تحت عينيه مثل فارس أصيل في ساحة الإعدام. ياولدي: تعبت. تسعون رمضانا وأنا أطلب من هذه (الأطلال) ألا يأتيني العام القادم برمضان جديد. تسعون عاما وأنا شاهد على جنائز الأسود حين تتبعها (الأشبال) باكية حزينة إلى المقابر وهذا الموت لا يوزع عدالته ليترك للحياة من لا (شبل) لديه ليكفيه أو يبكيه.
يا ولدي: كأنني أطلت البقاء بين (الرفقة) حتى اكتملت الغربة. حتى القرية الأولى ماتت ولم أرحل بعد. ولدت، ياولدي، في زمن (أبو ذيل) يوم كان الجوع يأكل حتى مداميك الطين. كان (ختاني) مع سعد أبو دهمان، وكانت ليلة زواجي تسبق (بومارقة) بليلة. سأحسب لك يا ولدي كل الأسماء وسأسرد لك كيف خرج كل هؤلاء من هذه البيوت إلى المقبرة. يا ولدي: صارت هذه المقبرة عندي أغلى من هذه البيوت. كل ذكرياتي وذاكرتي مدفونة في جوف هذه القبور. مع هؤلاء جعت ومعهم شربت. معهم كنا نصوم على الماء البارد ونفطر على (فنجان) من السمن يوم رهن (ابن حويل) جنبيته لدى (تهامي) قادم من تلك الأغوار من أجل فك (ريق) جماعة هائلة. مع تلك العظام النائمة في القبور كنا نتعارك بكل شرف حين تنزل من السماء قطرة ماء. مع تلك العظام كنت أرقص (الدمة) وكتفي في كتف (خصمي) الذي اختلفت معه على حجر شارد من (المسيلة). ياولدي: تعبت وأنا أنقل هذه الأقدام، مثلما أحمل هذه السنين من رمضان إلى الذي يليه. يا ولدي، تعبت لأن الذين أحبهم رحلوا إلى المقبرة وتركوا من بعدهم (رفيقهم) الذي لن يترك من بعده (خلفة) للبكاء والحب. ما اسم ولدك الأكبر يا والدي؟ أنا عقيم. حي يعيش بذاكرة كاملة ذهبت إلى المقابر. أخشى أن يتطاول الزمن فلا يجدوا لي من بعدها (شقاً) مع من أحب.