لحظات متباينة، شديدة التباين، ولكنها كانت شديدة الشبه في اللحظة نفسها! صوت أزيز الطائرات وهدير المروحيات تغطي السماء الملتهبة بشمس القيظ الحارقة، وجحافل البشر المنتشرين في كل مكان، وهتاف متلاحق، وجوه مستبشرة على أي حال كانت عليه. لحظتان هامتان في حياتي أعتقد أنني لن أمر بمثليهما، ولا أعتقد أن هناك إحساسا سيأتي مشابها لهذه اللحظات.
الأولى في حرب 1973 عندما انتقلت مع زوجي حينما ذهب مع اللواء الثامن للجيش السعودي إلى سورية أثناء حرب أكتوبر لنشارك في هذه الحرب، حيمنا استقللت الطائرة العسكرية مع الجنود العظماء والأبطال السعوديين إلى مطار دمشق في شهر رمضان الكريم في القيظ الحارق. وكانت الوجوه مستبشرة فرحة راقصة مغنية وكأنها ذاهبة للاحتفال وليس للحرب، فلا يخيفها صوت الانفجارات ورتيم صوت القنابل في القنيطرة والجولان وغيرهما من ساحات القتال!
أما اللحظات الأخرى فحين قامت الثورة المصرية 30 يونيو 2013 بوجوه مستبشرة وراقصة ومغنية، البشر يملؤون الدنيا وكأن الحشر قد استوجب ساعته! هدير المروحيات في السماء، وصيحات الجحافل البشرية المتتالية تهز الأفق وتسارع من نبضات القلوب على الأرض وهم بصوت واحد يقولون "يا الله".
فتختلط نداءاتهم بصوت انفجارات طلقات الزينة فتغطي السماء وتصم الآذان. ثم تتوج اللحظات بشروق شمس يوم جديد لوطن عتيد جديد، فيتفتق الأفق بصوت الشعب الرائع العجيب المصمم العنيد حتى تتلون سماوات مصر كلها بألوان الصوت الجهوري المنادي بالحرية التي تنتزع ولا تهدى، وتعود شمس مصر كما صدحت فيروز في ميدان الأزبكية بأغنيتها الشهيرة عام 1979 (مصر عادت شمسك الذهب).
حقيقة أن شمس مصر قد أشرقت في ربوع الوطن العربي بعد غيمة إثر ربيع ربما شابه الكثير من الزوابع والرياح التي لم يعهدها ربيع الزهور والورد والينابيع، إلا أن المصريين لا يبالون بأي زوابع أو رياح مهما كانت عاتية، فما لديهم من وعي وثقافة يكبح جماح أي رياح أيا كان اتجاهها، وأينما كانت قبلتها.
لم يكن سهلا على المصريين ما مروا به خلال عامين من اضطرابات وتوتر واختلال الأمن وهزات الاقتصاد، إلا أن مصر تأبى أن تنحني فتنتفض كطائر "الفينيكس"، تلك الأسطورة اليونانية لذلك الطائر الذي ينبعث من تحت الرماد فيعود شابا فتيا ألقا يتحدى الزمن.
لقد عشت كما عاش كل المصريين، نحبس الأنفاس ونحن نحدق بين القصرين، ليسا قصري نجيب محفوظ في روايته، وإنما قصرا "الاتحادية" و"القبة"، والسماء مغطاة بالطائرات والأرض تتغطى بالبشر، والحقيقة أن كل البشر كانوا سعداء كأولئك الذين كانوا معي في الطائرة عام 73، كل البشر سعداء سواي، لأنني لم أشعر أبدا وعلى الإطلاق بالقيد سوى في هذه اللحظات، لأنني لم أستطع الخروج من البيت والانطلاق معهم في الميادين، احتراما لخصوصية الثوار، واحتراما لنقاء هذه الثورة من أي أناس ليسوا بمصريين، ولعنت حينها سايكس بيكو وحدوده البغيضة التي خلفت حدودا نفسية، جعلتني لا أشارك أهل مصر فرحتهم وهتافهم، إلا أنني كنت أتمتع بسعادة بالغة جراء هتاف لا يحسه إلا من كان يعيشه في حينه ولحظته.
مصر الشامخة الأبية التي بدت في أصعب ظروفها وأدق لحظاتها التي تشبه لحظات الميلاد وكأنها عروس تخطر في ليلة زفافها بين أهلها، وقد رأيتم هذه المشاهد عبر الفضائيات وكيف بدت مصر العظيمة تزهو رغم أنف الأعادي بقصورها وحدائقها وتخطيطها ونيلها وكأنها آية من آيات الله على الأرض، لم تتأثر بأي هزات أو رياح عابرة بل كانت درة تتلألأ يتخللها نهر بشري يملأ كل موطئ قدم قد يغار منه النيل الذي توازى مع هذا التدفق البشري فيسيل في كل شارع في طوفان هادر ومرعب بقدر ما هو مفرح، والذي أكد المؤرخون أنه لم يحدث في تاريخ البشرية!
عظمة مصر وعظمة المصريين أكتبها لكم لأنني لم أحب أن أستأثر بهذا الإحساس النادر بمفردي ولتشاروكني إياه لأنه حس نادر الوجود.
هذه هي مصر التي ظن البعض أحيانا أنها هانت أو توعكت، ولكن أبدا إنها درة الشرق، كما يراها العالم، هذه هي مصر وهؤلاء هم العرب وهذه هي العروبة تنتشي بألوان الفرحة التي عانقت السحاب مع أجنحة الطائرات المحلقة.
شتان بين إحساسي في مقالتي السابقة الأسبوع المنصرم ومقالتي هذه، لأنني رأيت الإنسان العربي متجسدا لحظات الطلب ولحظات الخطوب! مرة في حرب 73 ومرة في الثورة المصرية وعايشت كلتا السعادتين مع خفقات القلوب وسط أزيز الطائرات وطلقات الرصاص.. إحساس بالخوف والفرحة ممتزجان في لحظة واحدة، أظن هذا الإحساس نادر الوجود فنقلته إليكم علكم تستمتعون به. حفظ الله مصر وشعبها. ونعيد مقولة فيروز "مصر عادت شمسك الذهب".