يرتب التاريخ مكائده بعناية من لا يخشى الفضيحة، وهذا الجهد المعرفي الذي بذلته الإنسانية في حيواتها، وأزهقت في سبيله أرواح المفكرين والفلاسفة، تتغافله مكائد التاريخ، لتجعل منه زوادة بؤس وحرمان وقهر.
ماذا تغني الكتب حين تفسد طوية الإنسان، ويصبح القتل وسيلته المثلى لتحقيق ذاته. الكتب على اختلاف مستوياتها قالت: إن محاولات مضنية بذلت لثني أول القتلة عن إغماد خنجره!.
قابيل لا تقتل أخاك؟ قابيل لا ترتكب الجرم..؟ قابيل ثمة كائنات تريد النيل منكما معا!، لكنه فعلها لمصلحة كائن يتحين الفرص السانحة ليبدو شيئا غير كنهه.
تتآكل عِبرُ التاريخ، لكن خميرته العطنة تعيد تشكلها في قوالب مكرورة هي ما نطلق عليه "تجارب" "ثوارث" انقلابات بيضاء وحمراء ومزكرشة الألوان!.
هل صحيح أن التاريخ مادة يكتبها المنتصر على صورة أقبية وزنازن يقضي فيها المنكسرون أعمارهم..؟. لا، ليس الأمر على هذه الشاكلة، وإلا ما كنا نجتر أحداث الفتنة الكبرى حتى عصر الفضاء المفتوح، وغزو الأجرام السماوية، وتحريك الجمادات، وفك الشفرة الوراثية، وطحن وعجن سورية، وتحويل الشعوب إلى عهد مخزنية يجرى نقل حيازتها بكل سلاسة وبمنتهى التهذيب. لو كان التأريخ أحداثا نضعها خلف ظهورنا رهن الحاجة إلى مضادات حيوية تحصن وتحمي أولويات الحاضر ما استدرجتنا كماشات التحجر، لكننا في الحقيقة أسارى جراح التاريخ، وما تنفك عيوننا تبحث عن الثقب الذي سيخرج منه ابن العاص تارة ونرتقب إطلالة العدالة على مقود الإمام الغائب والمنتظر تارة أخرى!.
التاريخ إذًا ليس صفحات تكتب ولا حكايات تُروى، إنه حيوان متوحش داخل طوية الإنسان، وهو الجرس المعلق على قرن الفاحشة والثأر، ومن غير الملائم اعتباره تاريخا طالما نستيقظ على رنين أجراسه في تلافيق الذاكرة، ليصبح الأمر تقليعة اعتيادية نتعاطى معها كلما اشتغلت حواسنا برسم مسرح جديد لجريمة ترتكب أو نقمة تتثائب.
حين تناولت سماعة الهاتف كان على الطرف الآخر نقيب الصحفيين الأسبق مستشار الرئيس اليمني الأستاذ محبوب علي، وهو كاتب مرموق وخطيب مفوه من أبناء الجنوب، تندهش لوقع كلماته المنهمرة عن تاريخ وحياة التنوير والمتنورين في مجتمعاتنا العربية واليمن تحديدا. مواجع الأديب وآهات الشاعر ومراثي القاص وندوب الصحفي.. وانكسارات الفنان.
أدركت من حرارة الحديث حرقة في القلب تماثل حالة سقراط، وقد أفرغ السم في جوفه!، وكدت أقول له أيُ عاصفة هوجاء ألقت بك هنا.. لا ريب أن خطأ حدث، أو أن التاريخ يخطئ أحيانا في توجيه بعض اختيارات السلطة.
في أزمنة كهذه تذهب أصابع التاريخ وجهة مثقف آخر!! يحسن طهي الدسائس والمفتريات. يتقن نسج الحيل.. يجيد تأهيل الضحايا حتى لا يكون أي منهم أقل قدرة من الآخر في تصميم ونصب مشنقته المفضلة، وإعلان حكم الإعدام على نفسه!.
ترى هل يدافع التاريخ ـ أقصد جيناته الخبيثة في ذواتنا ـ عن أخطائه الحميدة والنادرة في أكثر حقبة انحدارا؟
إن إشكاليتنا مع الزمن هي ذاتها إشكالية المثقف مع السلطة.. فالزمن يتحرك إما منحدرا إلى أسوأ مقامات التاريخ أو يمضي صعدا إلى الأمام، منفلتا من زمام السيطرة وعقال القوى الظلامية المنتجة للإعاقة.
ولم يعد خافيا أن إرادة الشعوب المقهورة وضعت في عدد من الأقطار العربية على منصة الإطلاق نحو المستقبل، على حين كان التاريخ يرتب حيله ويمارس عملية تخصيب قصوى لقواه الماضوية ويمكنها من تدمير اللحظة الثورية المندفعة لإحداث التغيير، أو بالأحرى حسم المفاصلات المعرفية بين ما كان ماضيا وما هو استحقاق في الحاضر.
ولم تكن الإعاقة لتحدث بهذه الصورة الدرامية الفاجعة لولا مستحضرات التهجين الأيديولوجي لمتأولي التغيير ومتقولي الثورة، أقصد تلك القوى التي تريد من الربيع علفا لرعي العهن المنفوش، لا زنابق تتفتق في حنايا الشعوب.
هذه الأوضاع السيئة التي تمر بها شعوبنا العربية والإسلامية ليست صنيعة الترتيبات المتسرعة لاحتواء ربيعنا العربي، الذي كان قدر ارتباطها بنخب سياسية تمارس وصايتها على المستقبل، ولا تتذكر علاقتها بكوارث الماضي!، والحق أن مثقفي البلاط ومنهم العالم بفتياه والأيدولوجي بمومياءاته، والكاتب بمباخره، والسياسي الذي نسميه رمزا بخرقه التي يرقع بها وجه السلطة؛ هؤلاء أفسدوا الجنرال القديم عندما وفد إلى الحكم بسجية الفلاحين وأفق المقاتلين الشجعان، وهم جعلوا منه غولا يلتهم كل شيء، ويتوجس من أي شيء، ولا يقبل من الشعب شيئا، وحين أنهت جيوبه مهمتها في إتلاف مقدرات المجتمع، وتدمير معنوياته، رأينا معظم هؤلاء يلتحقون بسوح الربيع ويعملون على خطف "ملكة النحل" لتغدو الثورة أزمة وتحاصصا وصراعا..
لست أدري إن كان في الرواية متسع للمثقف الاستثناء في الدولة الاستثناء؟ ومبلغ ما عندي من احتمال أنه لا محبوب علي في رئاسة جمهورية اليمن ولا الصديق يحيى العراسي سكرتير الرئيس ولا مروان دماج نائب رئيس تحرير الصحيفة الرسمية للدولة يستطيعون انتزاع دور مؤثر بحجم مساحة الشعرة البيضاء في حكومة متفحمة تتصدر أجنداتها جنح تاريخ أرعن.
وعندما يعاود قابيل هجمته الأولى ويردي أخاه، فإن كائنات متربصة هلامية المعتقد، طغامية الطبع، دوغمائية النشأة، سوف تستوقف عدسة التأريخ لتلتقط صورة المشهد لغرابين مطبوعة على الشهامة والمبادرة وحب الخير.. غرابين تتقرب إلى الله بإسدال الستار على أغبان الضحية، وقيد مظلوميته ضد مجهول، ولن يكون هذا المجهول في آخر المطاف غير مجتمعاتنا المتخلفة التي يستثمر التفوق الغربي عطنها التاريخي، ويعلق إنسانيتها على منقار غراب.