في الثلاثين من يونيو نفذت المعارضة المصرية ما وعدت به من إطلاق تظاهرات مماثلة لتلك التي عمت مختلف المدن المصرية قبل سنتين ونصف، في 25 يناير. والشعارات في هذه المرة أيضا لم تختلف عن سابقتها، فالمطلوب هو إسقاط النظام. المطلوب هو تنحي الرئيس عن السلطة وتحقيق انتخابات رئاسية مبكرة يتم من خلالها بروز قيادة سياسية جديدة.

والتقارير الصادرة تشير إلى أن الذين شاركوا بالمظاهرات في اليوم الأول تعدوا السبعة عشر مليونا. ففي معظم المحافظات خرج المتظاهرون يطالبون بسقوط مرسي، وفيها غابت الشعارات القومية التي طبعت مرحلتي الخمسينات والستينات من القرن المنصرم. وأصبحت الدولة الوطنية هي المبتدأ والخبر. وهذا موضوع يعيدنا إلى الحديث السابق التي ناقشنا فيه نجاح معارك الاستقلال وفشل مشاريع الوحدة.

لقد أسعفت الاستراتيجيات الدولية، بعد الحرب الكونية الثانية، معارك الاستقلال وأدت لانتصارها، لكنها مثلت متاريس طاردة أمام تغليب الهويات الكبرى. أضيف إلى ذلك عوامل ذاتية أدت إلى فشل المشروع العربي، تمثلت في عجز المنظمات والهيئات التي رفعت شعار وحدة البلدان العربية وعجزت عن صياغة برنامج عملي لتحقيقها، كونها ظلت رهينة لثقافة الاستبداد، وهي ثقافة شملت القمم والسفوح، ولم تستثن أحدا.

لقد أدت هشاشة التشكيلات الاجتماعية العربية لتسويات تاريخية بين البنيات القديمة، وبين الهجمة الكولونيالية التي برز دورها بوضوح في المشرق العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر، وتعزز بقوة بعد نتائج الحرب الكونية الأولى، وكان من نتائجها تعطل النمو الاقتصادي في مراكز اليقظة العربية آنذاك: القاهرة ودمشق وبغداد وبيروت، وبروز وجاهات اجتماعية قبلت بمهمة القوة الوسيطة بين العالم التجاري المحلي، والبنية التحتية، بما يعني أنها أصبحت تابعة للمشروع الخارجي ولم تعد قوة مستقلة ومبدعة.

في هذه الأوضاع نشأت وتطورت حركة التحرر الوطني في المشرق العربي كجزء من حركة التحرر الوطني العالمية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى. ولأن هذه الحركة اكتفت بمطالب الاستقلال ولم تحمل برامج سياسية واقتصادية واجتماعية لمرحلة ما بعد إنجاز الاستقلال، فإنها لم تشكل تهديدا لمصالح القوى العظمى السائدة آنذاك، بل شكلت عاملا مسرعا لإحكام القوى الدولية الصاعدة قبضتها والهيمنة على العالم والتفرد بصناعة القرار الأممي. وعلى أساس هذه القاعدة نشأ النظام العربي الرسمي الذي تأسس بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، والذي عبر عنه ميثاق جامعة الدول العربية.

والنتيجة الطبيعية لهذا المنظور التاريخي أن الطبقة المتوسطة التي يتوقع منها أن تكون كما في كل المجتمعات الإنسانية الأخرى، مستقلة بذاتها وصانعة للفكر ورائدة للتنوير والتمدين ومبدعة للفنون، أصبحت كسيحة وعاجزة عن حمل مسؤولياتها التاريخية، وبناء الدولة الحديثة. ونتيجة لركاكة موقعها في الخارطة السياسية فإن مواقفها اتسمت بالمراوحة وتغليب مصالحها الضيقة على مصالح الأمة.

ولأن التحولات الكبرى التي شهدتها الأمة العربية في مشرقها بعد معارك الاستقلال، هي تحولات ناقصة بفعل العوامل التي جرى تأشيرها، فإن النتيجة الموضوعية لذلك هي تغييبها للمشروع التنموي والتطور الاجتماعي وضعف التوجه الجامع.. وهكذا وجدت الأمة ذاتها ضحية انسداد تاريخي عطل من عملية التحول السياسي بآفاقه الإيجابية، وحال دون قيام الدولة المدنية. صودر الرأي والرأي الآخر، وحيل بين الإبداع والعلم والعمل، وتعطلت عملية تدشين مؤسسات المجتمع المدني.

لم يتبق في الساحة من بإمكانه قيادة الدولة والمجتمع في بلدان الهلال الخصيب سوى الشبان اليافعين بالمؤسسة العسكرية الذين واجهوا مرارات الهزائم والعجز والنكبة، فكان أن شهد المشرق العربي منذ بداية الخمسينات من القرن المنصرم انقلابات عسكرية عدة، كان الأكثر كاريكاتيرية بينها الانقلابات التي شهدتها سورية لتلحق بها بعد فترة وجيزة بلدان عربية أخرى، في العراق ومصر واليمن.. ورغم أن هذه المرحلة لم تكن سلبية بشكل مطلق، حيث تحققت جملة من المشاريع التنموية، وتعمم التعليم الإجباري للمرحلة الابتدائية، والمجاني للمراحل الأعلى، ووفرت المصحات والمشافي والكهرباء والسكن، لكن ذلك تزامن مع تصاعد ظواهر الاستبداد، وتغول سياسة التفرد والإقصاء. وقد مثلت نكسة يونيو1967، نهاية هذه المرحلة.

فيما يتعلق بالمشروع العروبي جرت محاولات انفعالية لتحقيق وحدات بين قطرين أو أكثر لم يقدر لها النجاح. طغى المثال على الواقع، واكتفي المثقفون والمفكرون بالتنظير بدلا عن الممارسة، وعاشوا حالة انفصام بين ما يؤمنون به وبين ممارساتهم، وبقي الشعار مؤجلا حتى إشعار آخر.

المقاربة إذا تقول إن مشروع الاستقلال الوطني لم يكن التحول السياسي والعدل الاجتماعي وبناء الدولة المدنية شروطا لتحققه، إنه عمل وطني جمعي مناهض للاحتلال الخارجي، مع أن هناك جدلا يقول إن استكمال الاستقلال هو رهن بما يستتبع من تحولات لاحقة. أما الهويات الكبرى فهي عمل طويل، شرط تحققها التضحية، وتراجع سياسة الاستئثار بالسلطة، وهي في النتيجة تعبير عن مصلحة الغالبية، وليست لقوى محددة بذاتها.

وهكذا فإن هيمنة الأنظمة الشمولية هي من المعوقات الرئيسية لانتصار الهويات الكبرى. ولا شك أن ثقافة هذه الأنظمة وجدت بيئة مناسبة في المجتمع العربي المتسم بركاكة تشكيلاته، فأصبحت هذه الثقافة جاذبة لنخبه السياسية والفكرية والثقافية. ترفع المعارضات السياسية بمختلف توجهاتها شعار التداول، ولكن زعاماتها تظل ماسكة برئاسة الحزب أو الهيئة أو الاتحاد، لا فرق، حتى ينتزع الرحمن الرحيم أمانته.

ولا يستثنى في هذا السياق قادة الأحزاب اليسارية والقومية والليبرالية، ولا رؤساء مراكز البحوث العلمية، فكلهم يقدسون ثقافة الاستبداد، ويمارسونها بجلد ومثابرة حتى النفس الأخير، والنتيجة هي تكريس مقولة "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، وتغييب المبادرة والخلق والإبداع، ولتبقى آليات التجزئة ماثلة في القمة والسفوح.

جدلية الاستقلال الوطني والوحدة تضع التنمية بكل تشعباتها شرطا لازما لاستكمال الاستقلال الوطني، أما الوحدة فإن تحقيقها يقتضي في أبسط بديهياته تصليب البنيات الاجتماعية العربية، والانتقال للدولة المدنية، وأن يكون للشعب العربي فسحة في تقرير مصائره وأقداره.