مر حتى الآن مئتا عام هجري على نهاية الدولة السعودية الأولى، وسقوط عاصمتها الدرعية في أيدي الغزاة بعد حصار دام عدة أشهر، ومعارك بطولية من الكر والفر، وتضحيات جسيمة سجلها المدافعون عن أرضهم ودولتهم وشرفهم.
واذا كان لكل أجل كتاب، ولكل دولة بداية ونهاية، فإن هناك أسبابا موضوعية لاحتلال الدرعية، ثم تدميرها بعد عدة أشهر على أيدي الغزاة الذين كانوا أقوى عدة وعتادا وتموينا وعددا من الأبطال المدافعين عن أرضهم وشرفهم، وما معركة (ضرما) البطولية (1233 ـ 1818) قبيل حصار الدرعية، إلا علامة بارزة لعدم تكافؤ القوتين، الغازية والمدافعة، ومثلا يحتذى في البطولة والتضحية لشعب سالت دماؤه للدفاع عن أرضه وعرضه، وفقدت (ضرما) في يوم واحد أكثر من 1300 شهيد دافعوا عنها بشرف وكان جدي (محمد بن حمد) رحمه الله أحد الشهداء الأبرار، وهدمت البلدة، وطرد سكانها من بيوتهم، وهذا ما حصل للدرعية بعد أشهر، وهذا ما يفعله الغزاة في أي بلد يحل فيه وباؤهم.
وإذا كان الإمام عبدالله بن سعود الكبير، قد افتدى أهل الدرعية خصوصا وشعبه عموما بنفسه، بعد جولات ومعارك طويلة، فإننا نتذكره بعد قرنين من الزمن بكثير من الإكبار والإعجاب، لهذا البطل الشهيد، الذي قتل في استامبول عاصمة الدولة العثمانية المنقرضة، في أحد الأيام الحزينة من محرم عام 1234هـ، بعد أن سجل بطولته وتضحياته في سجل تاريخنا الوطني بأحرف من نور.
ولعل من أعظم ما قام به هذا البطل الشهيد.. هو تسليم نفسه بعد يومين من مقابلته للغازي (إبراهيم باشا) بل وتعّجب القائد المصري - الألباني الأصل - من صدق وتضحية ووفاء الإمام: عبدالله بوعده له بالاستسلام؟! وكان يظن بأن وعود العرب الأصلاء مثل وعود الترك وأخلاط الأمم؟!
لقد قال (الباشا) لجلسائه بعد عودة البطل لتسليم نفسه فداء عن أهل (الدرعية) المحاصرين: لو أن الأمير عبدالله، هرب في فيافي وصحارى (نجد) لسلم، ولما قدرنا عليه!
ولكن البطل الشهيد له رأي آخر.. ولديه إيمان راسخ.. وفيه صدق الموحدين وتضحية الشهداء الأبرار! فقد حسب ألف حساب لقسوة المحتل وجبروته، فيما لو دخل (الدرعية) وقتل الرجال وسبى النساء والولدان كما فعل في (ضرما) قبل أشهر.
عندما مات والده الإمام العظيم، كان لفقده وهو لم يبلغ السبعين كارثة حقيقية على الدولة السعودية الأولى 1818، كيف لا والأعداء يتربصون بالدرعية وأهلها الدوائر، والجيوش التركية ـ المصرية تتوافد على الحجاز لسلخه عن الدولة السعودية، والحروب والغارات على أشدها، في معارك الكر والفر الطويلة بين السعوديين وأعدائهم الأجانب القادمين من وراء الحدود والخونة في الداخل الذين أغراهم المال فخفروا الذمة، وخانوا الأمانة، كما أن موت الإمام سعود الكبير والد (عبدالله) مبكرا ربما كمدا أو غضبا على ما أصاب الحجاز من ويلات المحتل الأجنبي وانسلاخ المدينة المنورة ومكة المكرمة، وهما الجوهرتان في عقد الوطن والدولة السعودية، خصوصا بعد الانتصار العظيم للجيش السعودي الباسل في معركة (الجديّدة) بوادي الصفراء قبل سنتين بقيادة البطل (عبدالله بن سعود) وحجه مع والده في تلك السنة، ثم تخلفه للمرابطة بأمر والده في مرّ الظهران (وادي فاطمة) يحمي خاصرة مكة المشرفة، ويطارد جيش المرتزقة الغزاة في الحجاز دفاعا عن استقلاله وردا لهجوم الغزاة الأشرار.
وجاءه النبأ الفاجعة بوفاة والده الكبير في الدرعية وهو على بعد مئات الكيلومترات منها، يصاول العدو والبادية وعملاء المحتل في (الخانوقة)، فيا لها من مآس تنوء بحملها الجبال وليس كواهل الرجال! كان ذلك 1914 ومنذ ذلك التاريخ بدأت نذر الكارثة.
وقفل المجاهد الصابر إلى عرينه (الدرعية) ليشهد مبايعته إماما رابعا وأخيرا للدولة السعودية السلفية الأولى.. وليبدأ من حيث انتهى والده الفقيد، في الحروب والغارات والغزوات، ويموت في النهاية لا كما مات أسلافه الميامين، وإنما ليقتل شهيدا في بلاد أعدائه العثمانيين، ويُدفن هناك غريبا كما دفن قبله الصحابي الجليل (أبو أيوب الأنصاري) وكلاهما مات في سبيل الله! فيا لها من نهاية عظيمة.. بقدر عظمة البطل والبطولة والاستشهاد.
من هنا تأتي البطولة مقرونة بالفداء.. في موقف الشهيد عبدالله بن سعود الكبير الذي ينبغي أن يذكره التاريخ والمؤرخون على الدوام.. أحببتُ هنا أن أتذكره وأذكّر به ولنترحم عليه بعد مئتي عام على استشهاده، ونهايته المؤلمة، وسقوط دولته المؤمنة ولو إلى حين.