الصوم شعيرة دينية لا تقتصر على دين دون آخر. وباستعراض تاريخي لأشكال الصوم وأنماطه نجد أن هناك أشكالاً متعددة للصيام في جميع الديانات، تختلف في التفاصيل لكنها تتفق في الهدف. فالصوم في الديانات السماوية يرمز إما إلى الانفكاك من الملذات الجسدية والعودة إلى الروحانيات طلباً للمغفرة وجلاءً للأحزان وتطهيراً من الذنوب، أو بهدف التذكير بالمآسي والحداد عليها في رحلة للتأمل والتقوى. أما في الديانات غير السماوية عادة ما يرمز الصوم لتفادي الضعف الإنساني والهروب من غضب الطبيعة. وقد كان الصوم ركناً في جميع الأديان السماوية وغير السماوية، حتى في الشرائع الوثنية، فقد كان قدماء المصريين، والإغريق، والرومان، وسكان ما بين النهرين في العراق، يصومون أياماً مختلفة في العام. وأياً كان شكل الصوم وتفاصيله فهو يرمز لتفجير الطاقات الكامنة وتنقية الأرواح من الرذائل الإنسانية الطبيعية في محاولة لاستعادة التوازن ما بين الجسد والروح. إلا أنّ الصوم في الإسلام يأخذ بعداً آخر يتمثل في الامتثال لأوامر الله واتباع سنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، باعتباره ركناً من أركان الدين.

إلا أن الملاحظ أن شهر الصوم لدينا يتميز بأنه يحدث انقلاباً جذرياً في نمط الحياة خلال هذا الشهر الكريم عن طريق طغيان النمط الاستهلاكي في حياتنا المستهلكة أصلاً. والصيام في بقية الأديان والمعتقدات لا يعد مظهراً احتفالياً استهلاكياً بالصورة التي نراها في مجتمعنا، فالليل لدينا نهار، والنهار ليل، ووجبتا رمضان اللتان من المفترض أن تكونا راحة للأجسام المثقلة، تمسيان أكثر ثقلاً ودسامة على الجسد من وجبات ما قبل رمضان الثلاث. وخلال الأسبوع الماضي، ومع اقتراب دخول شهر رمضان، بدأت مقدمات الانقلاب في حياتنا من تسوق وتجهيز لكل أشكال الاستهلاك المادي من مأكولات ومشروبات ووسائل ترفيه إعلامية، هذا إذا استثنينا آلاف الرسائل المقولبة والتهاني أو الكليشات الجاهزة التي بدأت تغزو كل منفذ للاتصال بين الأصدقاء والأهل والمعارف حتى صارت بديلاً عن التهنئة الصوتية والمرئية، وهي تكاد تكون في مجملها أو في أغلبها تهاني مفرغة من روح الخصوصية والحميمية التي تتوق الروح لسماعها، فلا تجد لها أثراً حتى ليستشعر المرء أن هذا الشهر الفضيل، والذي تصفد فيه الشياطين وتفتح فيه أبواب السماء، أضحى عادة استهلاكية أو مجرد احتفالية لا تترك أثراً ذا عمق على سلوك الفرد وشخصيته خارج حدود الشهر الكريم.

من المفيد أن نسائل أنفسنا ونحن في ساعة صفاء إن كان هذا الشهر الكريم يحدث حقاً لدينا انقلاباً جذرياً في نمط السلوك الإنساني في الأخلاقيات والتعامل واستبطان القيم بنفس مستوى ما يحدثه من انقلاب في نمط الحياة المادي؟ هنا أخشى ما أخشاه أني أجد نفسي متفقة مع الأخ الزميل خالد الغنامي في أن الإنسان لا يتغير جوهره في شهر الصيام عن بقية الأشهر حتى لو حاول تلبس حالة من التسامح. وأغلب الظن أن شياطين النفس البشرية تظل تعمل عملها وإن تقمص الفرد حالة التقى، ونواقص النفس البشرية تظل تطبع سلوكياتها العميقة وإن تلبست ثوب الكمال. ربما أسهم انشغالنا بالجوانب الكمية في العبادات في حرماننا من الجوانب التحويلية فيها، بمعنى أننا ننشغل كثيراً في حسابات تعبدية هي في جوهرها رمزية تهدف إلى نمو الفرد، لننتهي إلى تهميش الأثر السلوكي والتحويلي في تلك العبادات، فنقوم بإرضاء جزء من غرورنا بحساب زيادة الحسنات كمّاً دون أن نثري حقّاً أرواحنا.

إلا أن طوفان النمط الاستهلاكي الذي وجد طريقه حتي في تعبدنا، ونوازع الشر في النفس البشرية الذي عمقته الأنانية المتضخمة، ليسا قدراً أزلياً. فإيماننا العميق يظل أبداً يمنحنا بصيص أمل في أن يتجذر التقى الحقيقي، والذي يمنع الفرد من الظلم والفساد وهضم حقوق الآخرين، ويتجذر الخشوع الحقيقي، والذي يحول بين المرء والفحش من الكلام والسلوك، لتصبح هذه الصفات والقيم الإسلامية العظيمة سجايا تلازمنا في شهر رمضان وفي غير شهر رمضان.

تقبل الله منا ومنكم خالص الأعمال وعفا عما سواها.