عنوان هذه المقالة تغريدة في تويتر استوقفتني طويلاً.. طويلاً جداً.. وذلك بالعمق الذي تحمله وبمثل وقيم وآداب الحديث الذي تنطوي عليه.. هذه التغريدة تختصر آلاف الصفحات من النظريات والأحاديث والآراء التي وردت في آداب الحديث وفي قيم الحوار.. والتضمن العميق الذي تنطوي عليه معاني هذه العبارة هو أن الذي يصغي إليك يكشف فضيلة يتمتع بها.. وهي تنطوي على بعدين أساسيين: الأول مستوى الحديث.. فالمصغي يعطيك وقته وانتباهه وفكره ويكشف عن تقدير واحترام يكنه المصغي للمتحدث.. هذه الفضائل جميعها تتطلب حديثاً يليق بها.. فلا يجوز بحال من الأحوال أن تقابل فضيلة الإصغاء بمستواها العالي بحديث أقل فضيلة وأدنى مستوى.. فالمصغي ونتيجة لفضيلة إصغائه لا يكافأ بحديث لا يحقق له الثمن الذي يقدمه بإصغائه.. وإذا لم يكن الحديث في مستوى الإصغاء فإن المتحدث يسيء للمصغي بأن لم يحترم الوقت والجهد والفكر الذي بذله في الإصغاء.. نحن جميعاً بدون استثناء عندما نختار بمحض إرادتنا الإصغاء لحديث محدد فإننا نعطي المتحدث هذه الميزة ولا يجوز أن يقابلها بحديث لا يليق بها.. والبعد الثاني لتلك التغريدة عندما يكون هناك حديث فلا بد أن يقابل هذا الحديث بصمت يليق به.. ليس من آداب الحديث ولا من قيم الحوار ولا من مثل المحادثة ألا يكون هناك استماع جيد لمتحدث بواسطة صمت جيد.. هذا الصمت فضيلة تحقق استيعاب المتحدث وتكشف احترام الصامت للمتحدث وتنطوي على الرغبة الحقيقية في الاستيعاب، لأنه ببساطة لا حوار جيد فاعل بدون استيعاب جيد.. ولهذا السبب فالمتحدث يستحق منا صمتا يليق بحديثه.. وكثير من الحوارات.. بل كل الحوارات الفاشلة هي نتيجة صمت لم يرتقِ لمستوى الحديث.. هذا لا يعني أننا إذا لم نتفق مع الحديث يجب ألا نصمت.. بل يعني أننا يجب أن نصمت، لأن الحديث فضيلة في حد ذاته، وهذه الفضيلة، وحتى يمكن الرد عليها بما تستحقه، يجب أن يقابلها صمت يرتقي لمستواها ويليق بها.

انطوت هذه التغريدة على كلمات تشكل ما يسمى "الكلمات الهامة" Key words في الحوار.. فالإصغاء والصمت والحديث تشكل الأس في أي حوار.. فلا حوار بدون إصغاء.. ولا حديث بدون صمت، وإذا اختل التوازن في الحديث أصبح لا يليق بالإصغاء، وبالمقابل إذا اختل الصمت أصبح لا يليق بالحديث.. إذا طبقنا هذه المعادلة التي تنطوي على حكمة بالغة ومعان عميقة أصبحت مواقف كل من المصغي والمتحدث إيجابية.. هذه الإيجابية تقود بلا شك إلى نجاح الحوار.. إذا كان الإصغاء ناجحا ومكتمل الشروط، والحديث لا يليق به، نتج عن ذلك موقف سلبي للمصغي واهتز مستوى الحوار، بل وفشل.. ومن هنا كانت أهمية أن الحديث يليق بالإصغاء.. وأيضا إذا كان الحديث ناجحاً ومكتملَ الشروط والصمت لا يليق به أيضاً اهتز مستوى الحوار وأيضاً فشل..

نحن كمثقفين ومتحاورين لا بد أن نعرف متطلبات الحوار ومتطلبات الصمت.. لابد أن نعرف آداب الحوار..، نتحاور ونتجادل ونختلف ونتفق، وتكون لنا رؤى مختلفة وآراء متباينة، ووجهات نظر متنوعة.. كل ذلك وارد، بل مطلوب، لأنه عادة ما يظهر الرأي الحصيف المناسب من اختلاف وجهات النظر من خلال العصف الذهني المصاحب للنقاش، فعادة ما يقف كل فرد على منظور خاص به، ويقدم رأيا مختلفا، وتجتمع في النهاية النقاط الإيجابية من كل رأي، ليتم الخروج برأي قوي شامل يمثل وجهات النظر مجتمعة وكل الجهات المتحاورة. لكن وبالرغم من كل ذلك لا بد أن يليق الحديث بالصمت، وأن يليق الصمت بالحديث.. هذا هو المطلوب..

نعم لدينا مشكلات، ونعاني من سلبيات، ونواجه صعوبات أثناء الحوار، وهذا لا يمنع أن يعطى الحديث حقه، وأن يعطى الصمت حقه... يجتمع متحاورون للتحاور على أي مستوى، لكنك ترى جزءا في أقصى اليمين وآخر في أقصى الشمال.. يتحاورون، والحوار أمر مطلوب، لكن الخطورة في الأمر أن الحوار بين المتناقشين لا يحترم حق الصمت وحق الحديث..إذا أعطي الصمت حقه والحديث حقه في الحوار خرج منه المتحاورون بأفكار جديدة بناءة.

يجب أن ندرك ـ مهما اختلفت رؤيتنا أو فكرنا أو مذهبنا ـ أن الحوارات الرعناء التي لا تلقي بالاً لآداب الإصغاء والحديث تدمر العلاقات، وتفشل الحوار، وتؤدي إلى التضاد.. بل تدمر الأخلاق وتفضي للعداوات..

وخلاصة القول: الحوار الآن لم يعد ترفاً، بل إنه ضرورة.. إنه هدف في حد ذاته.. وله آداب وأخلاقيات. ومن أهم أخلاقياته أن يليق الحديث بالإصغاء، وأن يكون هناك صمت يليق بالحديث.. إن من يحضر بعض الحوارات في مجالسنا يصاب بالفزع بين الخلاف، وليس الاختلاف بين المتحاورين، وكأننا من كواكب مختلفة. فلا إصغاء، ولا استيعاب يليق بالحديث والمتحدث.. ولا حديث يليق بالمصغي الصامت الذي يستحق حديثاً.. والأمر الذي يزيد حيرة أن هذا يتم بين طبقة المثقفين الواعية، الذين يفترض أن يكونوا على درجة كبيرة من الوعي بأن هذا الخلاف لا يصب في مصلحة أحد، ومن أولهم المتحاورون أنفسهم. لنكرس ثقافة بناء الإصغاء وثقافة الحديث اللائق بالمصغي.. هذا سيؤدي إلى حوار مثمر.. حوار منتج.. نحن لا يزال لدينا قصور في فهم أن الحوار هدف.. نعم هدف نسعى لتحقيقه.. الكثيرون يظنون أن الحوار وسيلة.. لا، نحن إلى الآن لم نحقق الحوار كهدف.. لا نزال قاصرين عن الوصول إليه.. وفي ظني أن: الحديث الذي يليق بالإصغاء، والصمت الذي يليق بالحديث سيوصلاننا إلى الهدف الذي نتمنى ويتمنى الوطن الوصول إليه وهو " الحوار". وأؤكد أن هذا ليس تنظيرا.. هذه حقيقة لم نستوعبها.. ويظن الكثيرون أن السبب خارج الحوار.. لكن السبب الحقيقي هو أننا لم نصل للحوار ونحققه كهدف.. ومن هنا جاءت أهمية هذه التغريدة التي كشفت بعد المشكلة وجوانبها.. ولهذا استوقفتني طويلاً.. وتطلبت منى هذا التحليل لها.