سنتان ونيف مرت على الثورات العربية التي اجتاحت العالم العربي، سقطت فيها أنظمة، وقتل فيها عشرات الآلاف من الناس، دمرت فيها آلاف من المباني، اختل فيها الأمن وتوترت العلاقات بين أنظمة وأخرى، مآسٍ ومشكلات كبيرة، وغياب للأمن واضطراب في الاجتماع البشري ونقص في الخدمات إلى آخر ما أفرزته تلك الثورات على المحيط العربي.

إنني أدرك أن هذا الكلام لا يروق أبداً للحالمين بالثورات والذين كانوا يرون فيها طوق نجاة من واقع التخلف الذي تعيشه الأمة في هذا الزمن، ولعلهم في دواخلهم يدركون ما ذكرت آنفاً وأكثر، ولكنهم ينظرون إلى بصيص أمل لعله أن يمسح هذه الصورة القاتمة وتحل محلها الصورة الحلم، التي رسمها الكثير حين قامت هذه الثورات والتي ستنقل الناس من الجحيم إلى النعيم، ومن التخلف إلى التقدم ومن الاستبداد إلى العدالة والديموقراطية والحرية، وهم دائماً يجيبون بأجوبة على هذا من قبيل: لكل حرية ثمن، والثورات لا تستقر بعدها الأوضاع إلا بعد سنين عدداً وما إلى ذلك من متتالية التبريرات التي يراد منها في نهاية المطاف التعمية عن الآثار الكارثية التي جرتها الثورات على المنطقة كلها.

إن الحلقة المفقودة في وعي من يقرأ الثورات ويتحمس لها، هي الغفلة عن قراءتها من خلال الأطماع الغربية ومخططات الاستحواذ على الثروات وحفظ أمن إسرائيل والتنافس على مناطق النفط والثروات والتحكم في المعابر الاستراتيجية الرابطة بين الشرق والغرب، والتسابق إلى المواد الخام التي قدر أن تكون في هذه المنطقة والتي تشكل جزءاً كبيراً من احتياطيات العالم، ومحاولة رسم الخارطة الجديدة بما يحقق المصالح الاقتصادية والسياسية للغرب ولأميركا على وجه التحديد في المنطقة، التي لا تتم إلا من خلال ما اصطلحوا عليه بـ(الفوضى الخلاقة) التي من خلالها يعاد رسم المنطقة بعد أن يهدم منها ما يهدم وعلى رؤية جديدة تتفق مع استراتيجياتهم وطموحاتهم وتقليم أظافر القوى الجديدة والقادمة من الشرق، التي أخذت تنمو وتسابق وتتقدم تقنياً ثم هي تبحث عن موطأ قدم في المنطقة حتى يكتمل لها الأمر، وهو ما يهدد الغرب ببزوغ حضارات جديدة تحبط مساعيهم في عولمة العالم وصوغه بناء على رؤية "نهاية التاريخ"، التي تفترض بالناس أن يؤمنوا بمبادئ الديموقراطية والليبرالية الغربية، التي وقف الناس على أعتابها ولا يمكن أن يتعدوها إلى غيرها في رؤية استعمارية ناعمة جديدة.

إن أخطر ما جرى في الأحداث هو حماسنا لتنفيذ مخططاتهم، والسير على ما رسموه حين توارى "العقل" في استبصار ما يجري، فسلمناهم أعناقنا، وطبقنا خططهم حذو القذة بالقذة وخاصة فيما يتعلق بمحاولة رسم المنطقة على أساس: عرقي/ طائفي، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال إشعال بذور الطائفية وجعلها مرتكزاً في قراءة الأحداث، ومن ثم شحذ النفوس لتقبل هذه الفكرة وتأصيلها واجترار التاريخ وأحداثه لإقناع الناس بهذه النزعة الطائفية والعرقية والتي إن استمرت فإنها ستأكل الأخضر واليابس، وها هي تدق نواقيسها في سورية ولبنان ومصر ولن تقف عند ذلك الحد بل ستسري في كل منطقة فيها طوائف وأعراق وتمايزات مذهبية ودينية، فتدخل الناس في معركة لا يهدأ أوارها إلا بعد سنوات تأكل فيها الأخضر واليابس.

إن منطقتنا الآن بحاجة إلى "العقل" الذي يلجم الأفعال المنفلتة، وتمنع أن يتسلم قليلو الخبرة والدراية وإدراك العواقب والضعف في قراءة ما يكاد للمنطقة زمام الأمور، وأن يقف العلماء والمفكرون وقفة صادقة في لجم الفتن ووضع النقاط على الحروف في الأحداث وإعلان الرفض لكل نزعة تؤجج الطائفية والعرقية والمذهبية، والتعقل في تقدير الأضرار وموازنة المصالح والمفاسد ودفع الضرر الأعلى بالضرر الأدنى، ومحاولة "التصالح" حتى مع إهدار بعض الحقوق الخاصة في سبيل حفظ الكيانات العامة وسلامتها.

إن "التساكت" عن الأخطاء، والمجاملات التي يكون دافعها الخوف في سطوة الجماهير والأتباع، أو الحرص على الحفاظ على هيبة الجماعات والأحزاب والمفكرين تكون عاقبته في الغالب مفزعة، والتاريخ يشهد أننا جنينا ثماراً مرة من هذا التساكت، الذي لا بد أن يأتي يوم ليرفع الحجاب عن الأخطاء كما حدث في أفغانستان والشيشان والعراق وغيرها، ومعالجة الأمور من أولها دائماً يكون سبيلاً جيداً لكل المشكلات التي تعترض الأبدان والوقائع، وأن تركها حتى تستفحل يكلف كثيراً بل وتكون عيية عن الحل وتكاليف علاجها باهظة أو مستحيلة.

إننا بحاجة إلى هيئات راصدة للأحداث، تدرس تضاعيفها وآثارها، وترسم الخطط لمواجهتها، وتستشرف مستقبل الحدث ورسم السيناريوهات المحتملة والحلول لها، وتحشد في سبيل ذلك الطاقات والعقول والمفكرين المخلصين للأوطان للاستنارة بآرائهم في رسم خارطة النجاة حتى نستنقذ ما نستطيع استنقاذه من هذا التسونامي الكبير، الذي لن يترك مكاناً في المنطقة إلا ولجه على حين غفلة من أهله، فأمام الدول التي لم تأتها الأضرار فرصة سانحة لحماية النفس من هذا الداء الذي بدأ يسري في المنطقة، ولديها فرصة لا يجوز لها أن تفرط في اغتنامها وإلا فسوف تقول: إنما أكلت حين أكل الثور الأبيض.