من يتأمل ويتابع المناخ الاستثماري في بعض الدول العربية المحيطة والمجاورة لبعضها يكتشف العديد من الحقائق المهمة التي تساعده في اتخاذ قراره الاستثماري. فعلى سبيل المثال يتحمس البعض لتيارات التغيير التي أحدثتها رياح الربيع العربي في بعض الدول العربية. وبصرف النظر عن الأسباب والمعاناة التي تعانيها تلك الشعوب من قياداتها من ظلم وقهر وجرائم ترتكب في حق الحريات الشخصية، ومحاربة للمذاهب والأديان والانتماءات، إلا أن التغيير أحياناً يحصد الأخضر واليابس، وأول وأكبر الأضرار تقع على كاهل الاقتصاد الذي عادة يستهدف دعاة التغيير ضربه وكسر قوته للقضاء على مراكز القوى من رجال الأعمال. وللحقيقة التي لا بد أن نعترف بها جميعاً نحن أبناء هذا الوطن أننا نعيش في ظل حكم ملتزم بشرع الله وسنة نبيه، يحرص قادته على تحقيق العدالة لشعبهم.. وهي ليست كلمات نفاق يراد منها مصلحة، وإنما هي نتائج مقارنة لأنظمة الحكم في بعض الدول العربية والإسلامية. وقد لا يعرف الإنسان قيمة النعمة التي يعيش فيها إلا إذا فقد هذه النعمة أو رأى معاناة الآخرين. ولا أود أن أدخل في تحليلات سياسية، فأنا لست متخصصاً فيها، وإنما سأركز في مقالتي اليوم على معاناة رجال الأعمال في بعض دول الربيع العربي، ومعاناة الاستثمارات السعودية في بعض الدول العربية التي شملتها تغييرات الربيع العربي.
فرجال الأعمال المواطنون في تلك الدول هم أكبر الخاسرين، حيث توقفت عجلة مصانعهم، وضربت مكاسبهم، وتكالبت عليهم البنوك تطالبهم بسرعة سداد ديونهم، وأوقفت التسهيلات الممنوحة لهم، وأودع بعضهم في السجون بحجة انتمائهم للأنظمة السابقة، وتوقف آلاف أو مئات الآلاف من العمال عن أعمالهم، فارتفعت نسب البطالة والفقر، وارتفعت نسب الجرائم بأنواعها، وتدنت نسب النمو الاقتصادي إلى الحدود الدنيا، وانخفض سعر صرف العملة إلى حافة الانهيار، واختطلت الأسواق بالسلع الرديئة، وتوقفت نظم المتابعة للجودة، وهاجر بعض رجال الأعمال إلى خارج أوطانهم لا يحملون معهم سوى حقائبهم، وتحولوا من أعمدة شاهقة في قطاع الأعمال في بلادهم إلى باحثين عن أصدقائهم من رجال الأعمال خارج أوطانهم، طالبين منهم المساعدة لضمان حق العيش والسكن اللائق لهم ولعوائلهم.. نعم إنها كارثة تشرد فيها الآلاف من رجال الأعمال خارج أوطانهم، ويعاني مئات الآلاف منهم في داخل أوطانهم. أما نحن ـ المستثمرين الخليجيين ـ فقد ذهبنا طوعاً للاستثمار في بعض هذه الدول، انطلاقا من مبدأ عدم وضع البيض في سلة واحدة، وتنويع الاستثمارات، وتكامل الاقتصاد العربي، وتشجيع الاستثمارات العربية العربية، تمشياً مع شعارات العروبة أمثال (كن عربياً واستثمر في بلد عربي)، ورغم جميع الاتفاقيات العربية بين الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، ورغم جميع الاتفاقيات واللوائح وجهود المنظمات الاقتصادية التابعة لجامعة الدول العربية إلا أن جميعها تجمد ولا يعتد برأيها في وقت الأزمات والعلاقات المتوترة.
ورغم أنني كنت من أوائل الذين شجعوا وشاركوا في الاستثمار خارج الوطن، وعلى وجه الخصوص في بعض دول الربيع العربي، وكنت مدافعاً عن سياسة تنويع الاستثمار خارج الوطن ومحفزاً له في الدول العربية والإسلامية؛ إلا أنني اليوم أعترف وبدون خجل بأنني لم أكن موفقاً في قراراتي وتوجهاتي، لأننا في بعض دول العالم العربي لا نحترم الاتفاقيات العربية أو الدولية، ولا نرعى مصالح المستثمرين العرب، وقد نحرص على المستثمرين الأجانب أكثر. ويرتبط نمو استثماراتنا ونجاحها بالعلاقات السياسية الجيدة مع الدول الشقيقة التي نستثمر فيها، وفي حالات التوتر في العلاقات أول من يعاني هم المستثمرون من الدولة المعنية بالعلاقة. فكم من قضية أقيمت على رجال أعمال سعوديين استثمروا خارج وطنهم، وبحسن النوايا وبأهداف اقتصادية وإنسانية كانت نتيجة أعمالهم الأحكام عليهم بالسجن أو المصادرة، أو بفرض رسوم جديدة تؤدي إلى إحداث خلل في اقتصادات مشاريعهم. وكم من رجال أعمال سعوديين يعانون فقط من نتيجة علاقاتهم الجيدة مع الأنظمة السابقة وأدخلوا في دائرة الشبهات. نعم إنها قضية تعاني منها الاستثمارات الخليجية في بعض دول الربيع العربي وغيرها من الدول العربية، وخوفاً من الفضيحة أو رغبة في استغلال العلاقات الثنائية لكل دولة خليجية تذهب كل دولة لمعالجة قضايا مستثمريها منفردة دون إبلاغ الدول الخليجية الأخرى، ولو تكتلنا جميعاً وكونا جبهة حوار موحد لمعالجة استثماراتنا الخليجية خارج أوطاننا لكنا قوة مؤثرة ضاغطة على الأطراف الأخرى لمعالجة معوقات استثماراتنا.
وبعد هذا التحليل المختصر للمشكلة وأبعادها أجد لزاماً علي كمستثمر وكمحلل اقتصادي لمناخ الاستثمار خارج الوطن أن أوجه رسالتي إلى جميع المستثمرين الراغبين في الاستثمار خارج وطنهم أن يعيدوا النظر في قراراتهم الاستثمارية ولو موقتاً. ولست مدافعاً أو محابياً أو صاحب مصلحة للاستثمار في المملكة، ولكن الواقع والحقيقة تفرض نفسها بأن الاستثمار في بلادنا هو الأجدى والأكثر ضماناً من الاستثمار في أية دولة أخرى حتى في بقية دول العالم.. فهو الأكثر تحفيزاً للمستثمرين السعوديين، حيث لا ضرائب على المبيعات أو المشتريات أو المشاريع، بل هناك دعم تمويلي طويل المدى للمشاريع الصناعية والزراعية والتعليمية والصحية، بالإضافة إلى المميزات الداعمة للتصدير والمشتريات الحكومية والامتيازات الأخرى في الخدمات. والأهم من جميع ما تقدم الاستقرار السياسي الذي تنعم به بلادنا، وحرية التجارة والاستثمار، وعدم تدخل الدولة في قرارات المستثمرين. ومن يتابع نتائج عوائد الربحية على الاستثمارات في المملكة ومثيلاتها في خارجها يلحظ أن العوائد في المملكة أضعاف مثيلاتها خارجيا في مختلف المجالات.. فهذه نصيحة مجرب صاحب خبرة طويلة، أسديها لرجال الأعمال بقناعة تامة وبثقة كبيرة في الاستثمار في المملكة، وهي نصيحة غير ملزمة وإنما مُعلمة فقط.