- 1 -
بعد التاسع من نيسان 2003، استطاعت أميركا أن تقدم طبقين رئيسيين من المطبخ السياسي الأميركي للعـالم العربي، يعدان هما (المنيو Menu)؛ أي قائمة الطعام الوحيدة لدى (الشيف) الأميركي للزبون العربي الكريم، ولا طبق ثالثاً لديه.
الطبق الأول، هو طبق صدام حسين (الذي كان حارس بوابة القومية العربية الشرقية) وهو طبق الديكتاتورية، والطغيان، والاعتداء على الجيران، واقتناء أسلحة الدمار الشامل، ومطاردة المعارضة، وسجنها، وقتلها، وإبادتها في مقابر جماعية، وعدم الاستجابة لنداءات الأمم المتحدة، وتحدي الإرادة الدولية، وعدم التنحي، وعدم مغادرة العراق رغم الإنذار المحدد، فكانت النتيجة أن قبض على الذي كان يلقبه أعوانه ومريدوه إلى الآن: "القائد الضرورة" في جحر، لكي يُقدم للمحاكمة التي حكمت عليه بالإعدام، نتيجة جريمة واحدة فقط، ارتكبها من ضمن عشرات الجرائم.
فكان صدام عبرة لمن اعتبر من الحكّام العرب، الذين يلعبون اللعبة التي لعبها صدام، أو نصفها، أو ربعها، أو واحدا على عشرة منها. وأنه لم يسمع، ولم يعِ، و(استعبط)، واستكبر، وقال قول فرعون: "أنا ربكم الأعلى"، و(طنّش)، فكانت النازلة الكبرى، التي انتهت به إلى حبل المشنقة.
-2-
والطبق الثاني، وهو طبق القذافي، الذي أطلق على نفسه، وردده أتباعه كالببغاوات: (أمين القومية العربية). وكان الحاكم الإرهابي الفظيع الذي قتل مئات الأبرياء في الطائرات والنوادي، ولكنه دفع ثمن ذلك غالياً ليس من جيبه، ولكن من جيب الشعب الليبي، حيث استولى على أرصدة المودعين في البنوك الليبية، باسم "حب الوطن والزعيم" لكي يدفع مليارات الدولارات ثمناً لمغامراته الدونكيشوتية. وقام بمطاردة المعارضة، وأطلق عليها صفة "الكلاب الضالة"، وقتل، وسجن، وطرد الكثير من زعماء المعارضة. وكان أكبر ديكتاتور عربي تشهده القارة الإفريقية، وامتلك أسلحة دمار شامل، أو برامج لهذه الأسلحة. ولكنه في الوقت ذاته، كان الثعلب الحصيف الذكي، عندما أعلن بعد التاسع من نيسان 2003، أن الذي لا يخضع للشرعية الدولية يُداس بالأقدام. ثم سلَّم نفسه طائعاً، صاغراً، للإرادة الدولية، وكشف عن برامج أسلحة الدمار الشامل التي لديه، بعد أن أخذ تعهداً من أميركا بعدم الإطاحة به، كما صرح ولده الأكبر آنذاك (سيف الإسلام القذافي) الذي ينتظر محاكمته الآن. وحمى القذافي رأسه – في ذلك الوقت - ولو إلى حين، طمعاً في أن يتم عنه العفو الدولي، ويُشطب اسمه من قائمة الإرهابيين. ولكن الشعب الليبي كان له بالمرصاد، فقام بالثورة، وقتله عام 2011.
-3-
ومما يُذكر أنه، وبعد أن أرسل القذافي كافة أسلحته ذات الدمار الشامل إلى أميركا، كانت النتيجة رضا "العم سام" عليه، ولو إلى حين الفراغ من شأن العراق آنذاك، وربما عفا عنه، (كما عفا عن حافظ الأسد ليصبح ابنه بشار هو الحاكم) وليصبح الحكم من نصيب ابنه سيف الإسلام القذافي الذي وقف يدافع عن قرار ليبيا بالإعلان عن برامج أسلحة الدمار الشامل.
وإلى الآن، لا أدري لماذا اقتنت ليبيا - منذ البداية - مثل هذه البرامج؟
وهل كانت ستحارب أميركا أو إسرائيل بها، وهي التي دعت إلى إقامة دولة فلسطينية - يهودية باسم "إسراطين"؟!
-4-
لا شك أن الإدارة الأميركية في ذلك الوقت، كانت سعيدة بصك البراءة الليبي، وهو صك يضاف إلى جملة إثباتات أن الحرب على العراق عام 2003، لم تكن للكشف عن أسلحة الدمار الشامل في العراق بقدر ما هي حملة للكشف عن أسلحة الدمار الشامل لدى الديكتاتوريات العربية بصفة عامة، ومنها ديكتاتورية القذافي، في ذلك الوقت.
وكان "ديكتاتور طرابلس" القذافي، قد أثبت في الفترة السابقة، أنه ثعلب سياسي ذكي وخبيث، عندما شمّ بفعل حاسة الشم الكبيرة التي لديه - والتي نجّته في السابق من أخطار كثيرة – أن ما سيجري في العالم العربي ليس (مزحة)، أو مناورة سياسية أميركية، وليس لعبة سياسية أميركية، كما كان يعتقد صدام حسين. بل إن الديكتاتور، اعتبر المسألة جدية، وأن أميركا جردت سيفها من غمده في ذلك الوقت، ورفعته في وجوه الديكتاتوريات العربية العسكرية وغير العسكرية، الحزبية وغير الحزبية. وأن موعد حصاد الرؤوس قد حان، بدءاً من ربيع بغداد 2003. فكان ديكتاتور طرابلس أشد ذكاءً وأكثر حصافةً من صدام. فنجا رأسه من السيف الأميركي، ولو إلى حين. ولكن سيف الشعب الليبي كان له بالمرصاد في عام 2011، فقبض عليه في قبو لتصريف الأوساخ، وقتله كأي جرذ كريه.
-5-
كان هذان، هما الطبقان الكريهان، من المطبخ الأميركي، عام 2007.
فمن أراد أن يأكل من الأول هلك، كما هلك صدام، ومن أراد أن يأكل من الثاني سَلك، ولو إلى حين، كما فعل القذافي. ولنا في سوريا، منذ عامين، المثال الحي الآن.
وتحوّلت "الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى" إلى مجرد "ليبيا" فقط.
وتحولت "أسود العروبة" إلى نمور من ورق، بسبب واحد ومهم، وهو أن هؤلاء الديكتاتوريين عندما اعتلوا مقام "الأسود" جاءوا بقرار فردي وليس مؤسساتيا، وعندما أصبحوا "نموراً" من ورق، كان ذلك بفعل قرار شعبي وجماهيري وليس فردياً.