إن المسلمين ـ بصورة عامة ـ في البلاد العربية والإسلامية، يطالبون بالعدالة وسيادة القيم والمبادئ الإسلامية ورفض الظلم والاستبداد، وبالطبع لن يتحقق ذلك إلا بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية التي تنطبق تماماً على مقتضيات العدالة.

وفي تصور البعض لن يتم تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية إلا بعودة "الخلافة الإسلامية" أو عصر "الأئمة المعصومين" لنشر العدل والأمان وإعطاء كل ذي حق حقه، فلا يصلح الزمان ولا المكان إلا بالحكم الإسلامي.

وبناءً على التصور السابق للخلافة والإمامة، تجد المسلم إذا أصيب بضائقة مالية أو شاهد مظاهر الفقر في بعض الدول الإسلامية، تذكر أن المسلمين لم يجدوا من يأخذ الزكاة في عصر الخليفة عمر بن عبدالعزيز، وإذا شاهد مظاهر الضعف والتخلف والجهل تذكر عصر الفتوحات الإسلامية والنهضة العلمية أيام الخلافة الإسلامية، وإذا شاهد مظاهر الظلم والاستبداد، تذكر كيف كان الخلفاء والأئمة يقيمون العدل وينصفون المظلومين.

هذا ببساطة شديدة لتصور عموم المسلمين للخلافة والإمامة، الأمر الذي أدّى إلى استغلال البعض من أتباع "الإسلام السياسي" لهذه الآراء وهذه التصورات أبشع استغلال واستخدامها كأدوات للتحريك العاطفي والإثارة النفسية للناس، فعلى سبيل المثال نجد مثل هذا الاستغلال في تجربة الإسلام السياسي في إيران القائم على فكرة "ولاية الفقيه" النائب عن الإمام، حيث يتم استغلال الدين والأئمة في التعتيم على المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعاني منها المجتمع الإيراني، في حين اعتقد الناس في الماضي، عند قيام الثورة وإسقاط نظام الشاه، أن عدالة الإمام علي بن أبي طالب سوف تتجسد على أرض الواقع ويتحول المجتمع إلى مجتمع ملائكي لا فقر ولا ظلم ولا جريمة فيه، ولكن الواقع أحبط آمالهم.

وفي أفغانستان ظن البعض انطلاق الخلافة الإسلامية من هناك، وظهور مجتمع إسلامي مثالي عادل، وكانت النتيجة أحزابا وجماعات تتناحر على السلطة والحكم، مع انهيار اقتصادي للبلاد واستمرار الجريمة والقتل، بعكس ما قرؤوه وسمعوه في كتب الإسلاميين وخطبهم.

وفي بعض دول "الربيع العربي"، وصلت الأحزاب الإسلامية إلى السلطة واستلمت مقاليد الحكم، وذلك اعتماداً على حسن ظن المسلمين بالحكم الإسلامي، وانطباع الصورة الذهنية الجميلة في عقولهم وأحلامهم عن الخلافة الإسلامية في عصر النبي، صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين وما فيها من عزة وكرامة وعدالة وإنصاف للمظلومين، وهذا هو أحد الأسباب الرئيسية في انتخاب الناس للأحزاب الإسلامية، بالرغم من أن قادة هذه الأحزاب لم يوضحوا التفاصيل الدقيقة في برامجهم الانتخابية، وحتى بعد استلامهم للحكم، بل كانوا يكتفون بالرد على الماركسية والرأسمالية والعلمانية والليبرالية وذكر سلبياتها وسلبيات الأنظمة السابقة.

وعلى هذا الأساس استطاع الإسلام السياسي طبع صورة في أذهان الناس بأن مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن حلها إلا عن طريق رؤيتهم الخاصة لهذه المشاكل والتي تقوم في نظرهم على أساس أحكام الشريعة الإسلامية.

وكما رأينا آنفاً، فإن الإسلام السياسي يرى أن حل مشكلات الواقع يعتمد على مرجعية النصوص الإسلامية، التي تتفق في الحقيقة مع مصالح الأحزاب الإسلامية وقراءتها وفهمها للدين ونصوصه، وهي القراءة الوحيدة التي تنطبق على معايير الحق من وجهة النظر الشخصية لقادة هذه الأحزاب.

لذا، ومن وجهة نظري الخاصة، نجد انقساما اجتماعيا حادا في بعض دول "الربيع العربي" في واقع متعدد دينياً وفكرياً، وذلك لأن المواطنة تختفي لحساب الانتماء الديني والمذهبي، ويزداد الأمر تعقيداً في حال كون أغلبية المجتمع ترفض آليات التقنين العلمانية، بينما تقبله الأحزاب الأخرى غير الدينية، ومهما كانت الدساتير الموضوعة تنص صراحة على التعددية وحقوق المواطنة، فلن يقبل الآخرون بأن يكونوا في موقع المواطن من الدرجة الثانية، ناهيك عن الخوف من هيمنة الحزب الواحد على السلطة والحكم في تلك البلاد.

إن الحقيقة التي يتجاهلها البعض ولا يريد الاعتراف بها تتمثل في أن أدوات الإسلام السياسي عاجزة وقاصرة عن مواكبة الظروف الاقتصادية والاجتماعية والأزمات التي تعاني منها بعض المجتمعات العربية، فنحن نرى اليوم، على سبيل المثال، كيف أن بعض الأنظمة الإسلامية وجدت نفسها مضطرة لاتباع سياسة النظام الرأسمالي الحر الذي يقوم على الفائدة الربوية في البنوك، بالرغم من تشدقها بالنظام الاقتصادي الإسلامي وذكر سلبيات الأنظمة الاقتصادية الوضعية في نظرها، وكما رأينا، أيضاً، كيف تتعامل هذه الأنظمة مع الدول الغربية على أساس المصالح، لا على أساس المبادئ، بعدما كانت تتهم الأنظمة الأخرى بالعمالة والخيانة والتبعية للأجنبي!، فما الفرق بين الحكومة الإسلامية والحكومة العلمانية في هذا المجال؟.

للأسف الشديد فإن المفاهيم السائدة والخاطئة لمعنى "الخلافة" و"الإمامة" أصبحت متجذرة في ثقافة المجتمعات الإسلامية، فمن الصعب التصور بأن الخلافة معناها تحمل مسؤولية إعمار الأرض من جميع البشر، فكل إنسان هو خليفة الله في هذه الدنيا. يقول الله عزّ وجل: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ). والإمامة معناها القدوة الحسنة للناس، كما جاء في قوله تعالى: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً).

ومع حداثة التجربة الديمقراطية في بعض الدول العربية أصبح الناخب يتحرك من موقع الحساسية الدينية والعصبية، لا من موقع الوضوح في الرؤية والمصلحة الوطنية، لذا نجد أن البعض يكرس وجود وحاكمية حزب بعينه من منطلق مفهوم الخلافة أو الإمامة، وهذا أخطر ما تواجهه الأنظمة الديمقراطية من عوامل الهدم والتخريب.

لا شك أن ايديولوجية الإسلام السياسي تعمل على تشويه الحقائق، ومسألة "الخلافة" و"الإمامة" ما هي إلا لأجل حفظ مكانة الأحزاب الإسلامية في قلوب الناس وحفظ الامتيازات السياسية لها، الأمر الذي يؤدي إلى اختفاء التعددية والحوار والانفتاح الفكري، ولحل هذه المشكلة فإن الأمر يرتبط بعلاج طبيعة التفكير الذي هيمن على المجتمعات العربية قروناً طويلة.