مذ عشرات القرون كانت "المهرية" لغة حميرية أصيلة وشائعة التداول، وأظنها واكبت حضارات عريقة وعبرت عن كيانات غيبها التاريخ.
والمهرية في وقتنا الراهن مجرد لهجة تجري على ألسنة بضع عشرات ألوف تضمهم رقعة جغرافية يمنية محاذية لسلطنة عمان، ومنهم من تجمعه بهم نفس الملمات والظروف.. وقطعاً فإن هذه اللهجة لا تفهمها ولم تكن تفهمها مختلف سلطات الدولة، ولا يحسن ترجمتها أي من القيادات السياسية في السلطة أو المعارضة، وليس زعماً القول بأن معظم سكان اليمن لا يعيرون المهرية سمعاً، ومتى كان لهؤلاء رأي في الشأن العام فواجبهم الصدع به بوسيلة غير لغتهم، وإذا أرادوا - بحكم الاضطرار - النزول تحت قوة الأمر الواقع وإيصال رسالتهم إلى مركز القرار بوسائط أخرى يعتقد أن (العربية) كفيلة بها لا يكون ذلك ممكنا دون تدخل الوسائط القبلية المحيطة بالمركز المقدس.
ذلك أن مواطنين يمنيين كثرا عجزت اللغة العربية عن إيصال رسائلهم إلى سلطات الحكم وشركاء الوفاق الحزبي الذي توجته المبادرة الخليجية حاكماً تتنازعه فطرة التقاسم وتتجاذبه أهواء الكيد والكيد الآخر.
على أن المهرية أو اللغة العربية كلتيهما تمتحان من منهل واحد، وتفرضان على مجتمعات (البدون) واقعاً يصبغ على الواقعين في الدرك الأدنى طابع الحياة القسرية وقواعد التعايش المستدام مع ثوابت الصمم السياسي بما هو أبرز سمات الأحزاب التاريخية وقادتها الأشد قدماً من اللهجة المهرية ذاتها.
كل الأنظمة السياسية العربية القائمة على الصراع والقبيلة والصمم تريد شعباً من المهريين، لكنها لا تريد لغتهم، أو هي بالأصل لا تحبذ لجوءهم إلى طريقة تؤدي دور اللغة في إيصال واستقبال الرسائل، وإن استخدموا لغة الإشارة فلن يفهم منهم غير فرد، واشتباك الأصابع في وضع يفهم منه دعوة (البدون) إلى بيت الطاعة وممارسة طقوس الولاء بما يشبه الخلوة غير الشرعية.
وعلى الرغم من هذا الجفاف تظل علاقة الحكومات بالشعوب المهرية رهن اختبار دقيق لمصداقية ما لا صلة لهم به من قول أو مصلحة أو عمل، ومثلاً.. عليهم الإيمان بالديمقراطية في حدود ما تسمح به تقاليد الأحزاب الإسلامية في التعاطي مع حق المرأة بانتخاب الذكور وحظر الترشح على النساء..!
يعمل المهريون في مهنة الصيد ويحصدون من الحسد على مهاراتهم أكثر من الحيتان الصغيرة العالقة بشباكهم، ومن خصائصهم اكتشاف فصائل سمكية نادرة.. وحين يحدث ذلك فإنهم يمارسون طقوساً حافلة بالرقص على حافة الصخور البحرية المتحجرة، ابتهاجاً بصحة المشرَّع لهم تناولها في وجباتهم !! وصائدو السمك على شط (البدون) يعشقون ثقافة البلورتاريا الرثة ويعتبرون تناول السمك الطازج مثلبة برجوازية مقيتة، ما يدعو الحكومات إلى مدهم ببعض حاجتهم منه معلباً سيئ التخزين.
يكافح المهريون من أجل البقاء ويغادرون الحياة داخل ثيابهم البيضاء الأنيقة المنسوجة من رماد القرنفل. وهم يتكاثرون في الواقع بينما تقل أعدادهم بنسب كبيرة في كل عملية تعداد سكاني .. غير أن هذا لا يثير حفيظة المهريين، كما لا تؤرقهم مخرجات الانتخابات البرلمانية في مختلف مواسمها الديمقراطية، ذلك أن تناول السمك المعلب بانتظام يورث مشاعر ازدراء تجاه الوجبات الطازجة في الطعام، كما في أشياء عديدة من السياسة إلى الاشتغال بالشأن العام.
بالمناسبة فالمهرية ليست لغة فقط ولا هي مجرد لهجة، لكنها في الواقع مستوطنة (برمائية) طافية فوق بحر من الأصداف الثمينة والآهات المعتقة والتطلعات المهدرة والشعارات النافقة والزعامات السياسية المسكونة بالجوع المعنوي..
وفي المستوطنة المهرية، بشر أسوياء يتدربون مذ يفاعتهم على أداء واجبات المواطنة وتشجيع الذوات على الاكتفاء بحقوقها.
المهرية كناسها مزيج مركب من مذاهب ومشارب وأرجاء مختلفة ضمن وطن أقل رحابة من الأفق الممتد لمشاعر الاغتراب التي تكتنف معظم أبنائه.
يحاول المهريون التواصل مع علية القوم من الساسة والنخب، يتعلمون الإنجليزية والألمانية والروسية والفرنسية، يتعلمون اللغة البنجابية والغجرية، ولا تفوتهم الجمل السحرية المدمجة ( اوكي يا طويل العمر)، لكن لا أحد يقبل منهم غير النطق بلغتهم المتعذر تقرير قدرة الآخرين على فهمها.
قال المهريون، قبل ثورة الربيع بسنوات، نريد التغيير، بينما كان المتراشقون باللهب يهزون رؤوسهم حيرة وإنكاراً!
المهريون طالبوا، قبل سنوات، بعقد اجتماعي جديد، وعُدَّ الطلب هرطقة بيزنطية.. دعا المهريون قومهم إلى حوار لا يستبعد أحداً ولا يستثني قضية، فذهبت السخرية منهم مداها المزعج. نادوا بحكومات محلية وتوازن بين السكان والجغرافيا والثورة وكان من بين طروحاتهم البرامجية (لا قداسة لمنجز بشري إلا بمقدار مردوده على مصالح المجتمع.. وكل إنجاز، وإن عظم شأنه، خاضع للنقد والمراجعة والتقويم). أشاروا إلى وفاق سياسي يحدد الوظائف السيادية للدولة المركزية، وكل ما عداها يذهب لخيارات الناس، إدارة وتشريعاً وتنفيذاً.. كما حذروا من تفصيل الدساتير بمقاس حاجة الحاكم، ومخاطر التشريع الحزبي، ورفعوا الراية لتداول السلطة بين الأجيال بدلاً عن تدويرها بين ترسانات الآباء، ومع ذلك لم تسعفهم لغات العالم لإيصال صوتهم، وزاد الأمر سوءا أن ثورة التغيير خرجت عن خط السير الصحيح واتجهت صوب ما وجدنا عليه آباءنا. وبهذا سقطت الأيقونة المهرية المنادية بإعلاء الفكرة على جوقة القطيع..
سيكون مفتتح الرواية حواراً يمنياً يدور اليوم ممولاً بالدولارات وتجري في أروقته قضايا على ذات الشاكلة..إن أغبان التاريخ جميعها تهون أمام حالة تفتش عن لغة تعالج صمم الأنظمة دون جدوى! فهل كانت الحرب والفقر وشتات الشمل ضرورة يحتاجها ساسة اليمن ريثما يكون حالهم رجع صدى لمبادرات مهرية عنوانها: (لا كرامة لأحد في قومه)؟!