في مقالي السابق بجريدة الوطن فندت ما نشره موقع ألماني حول تدني تصنيف سلامة الخطوط السعودية، وضمن ذلك السياق وعدتكم أن أروي قصة شركة الطيران التي رفضت تصنيفها كأفضل شركة في مجال السلامة، ومقاضاتها مروجي ذلك التصنيف.
لعل بعضنا قد شاهد فيلم رجل المطر (Rain Man) وهو فيلم رائع هُدِف من إنتاجه التعريف بمرض التوحد، أبطاله "دوستن هوفمن" و"توم كروز"، حيث لعب هوفمان دور شاب توحدي يتمتع بذاكرة خارقة حاول أخوه (كروز) توظيفها في المقامرة، فقرر أخذه إلى عاصمة القمار "لاس فيقاس"، وأثناء اختيارهما شركة طيران لرحلتهما رفض المعاق السفر على شركات الطيران الأميركية لأن ذاكرته تحفظ أدق تفاصيل حوادثها، واقترح السفر مع شركة "كوانتس" الأسترالية؛ لأن سجلها خال من الحوادث. وحيث إن "كونتس" لا تشغل رحلات داخل أميركا، فقد اضطر الأخوان إلى السفر بالسيارة. (انتهى ما يخصنا من القصة).
خلال أحد اجتماعات لجنة السلامة بمنظمة "آياتا"، دار بيني وبين رئيس السلامة بشركة "كوانتس" السيد" كينث لويس" حديث خلاصته أن شركته قد أقامت دعوى قضائية ضد منتج فيلم (رجل المطر)، ولأنني قد شاهدت الفيلم فقد سألته مستنكرا، هل تقاضون منتج الفيلم الذي قدم لكم أعظم دعاية مجانية؟. قال، نعم نقاضيه لدعايته. قلت له فسّر لي ذلك. قال "المعلومات التي أوردها الفيلم حول خلو سجلنا من الحوادث حقيقة نفخر بها ونجتهد للمحافظة عليها، ولكننا نرفض المتاجرة بها؛ لأننا نعلم أن احتمالات وقوع حادثة لأي شركة طيران أمر وارد بصرف النظر عن تميز مستوى سلامة تلك الشركة، لذلك فإن الشهرة التي كسبناها من الفيلم ستكلفنا غاليا عند تعرض شركتنا لأية حادثة مهما صغرت، حيث إن كل من شاهد الفيلم سيظل يتذكر حادثتنا أطول مما سيتذكر غيرها من الحوادث مما سيضر بسمعة شركتنا على المدى البعيد. كما أننا نؤمن أن السلامة لا يجب أن تكون مجالا لتنافس شركات الطيران لأن التنافس سيكون على حساب التعاون، وسيؤدي حتما إلى تحفظ كل شركة على معلوماتها وخبراتها بحجبها عن الشركات المنافسة في سبيل الوصول إلى مركز الصدارة، ومثل ذلك التوجه وإن كان مقبولا في المجالات التجارية فإنه يعتبر جريمة في مجال السلامة، ألا ترون أن صناعة النقل الجوي التي انطلقت عام 1903، بنجاح "الأخوين رايت" في التحليق بطائرتهما لمدة 12 ثانية غيرا بها وجه التاريخ قد تمكنت خلال 66 عاما فقط من إنزال الإنسان على القمر وما كان لها تحقيق ذلك التطور المذهل لولا التضحيات الجسام والإخفاقات المتكررة التي مرت بها، ولولا التعاون والتكامل الذي انتهجه متخصصو سلامة الطيران من خلال التبادل الحر للمعلومات حول أي إخفاق لما نجحنا في جعل الطيران المدني أكثر وسائل النقل في العالم أمنا، وأسرع الصناعات تطورا، ثم أردف، أليس اجتماعنا هذا والذي نحضره عدة مرات كل عام بهدف تبادل أدق المعلومات الخاصة حول إخفاقاتنا وتعميم الدروس المستقاة منها على الجميع بهدف تفادي تكرارها أكبر دليل على أن التكامل أهم بكثير من التنافس؟ وهل كان ممكنا لأي منا أن يتبادل أية معلومات حساسة حول سلامة شركته مع أي شركة أخرى لو كان هدفنا التنافس على التصنيف؟ لذلك فنحن نرفض استغلال السلامة كمادة دعائية أو ميدان للتنافس؛ لأن ذلك سيؤدي حتما إلى الانغلاق الذي سيُفقد الطيران المدني أهم مصادر تطوره وعماد سلامته، ومن أجل ذلك نقاضي منتج ذلك الفيلم".
لقد كان حديثي مع صديقي الأسترالي أحد أهم الدروس التي تعلمتها مبكرا عن أساسيات سلامة الطيران وعلمتها لكثير من زملاء المهنة، وليت الفرحين بتصنيفات الموقع الألماني يعيدون حساباتهم ويقيّمون الأمور بعين حكمة شركة "كوانتس" وبعد نظرها، ليقدموا الأهم على المهم.