لا شيء يستدر الدمع والشعر كالحنين وتذكر الأحبة الراحلين، ولا ألم يوازي ألم الغربة والابتعاد عن المكان الأول، مهما كان المهجر جميلا، ومهما توافرت به أسباب الراحة.

ولما كان الحنين إلى المكان والراحلين يستولي على مشاعري كلما ابتعدت أو فقدت، فقد صار هذا الموضوع محط اهتمامي منذ ما يزيد على 15 عاما، إذ يممت وجهي شطر شعراء جهتي الذين أتعبهم الحنين حتى صار شعرا جميلا تستلذه الوجدانات، مما جعل من غرض الحنين واحدا من الأغراض البارزة عند هؤلاء الشعراء، وهو يمتد متوهجا عبر قرنين من الزمان، إذ عرف عن شعراء عسير في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين أن هذا الغرض قد سيطر على موضوعاتهم، وذلك بسبب الظروف السياسية والاجتماعية التي جعلت الكثيرين من أمراء وعلماء هذه الجهة يقعون في الأسر أو يهاجرون طلبا للعلم، وهؤلاء لهم نتاج شعري يشكون فيه الحال ويحنون إلى الأوطان، إذ لم تكن تجارب الأسر والهجرة تمر هينة دون أن يكون لها أثرها في النتاج.

أما في الحاضر، فقد كانت حركة الهجرة إلى المدن الكبيرة عاملا مهما في استمرار بروز هذا الغرض، إذ هاجر أبناء عسير إلى المناطق الأخرى بحثا عن العمل، أو من أجل الالتحاق بالجامعات والمعاهد التي لما تفتح فروعها في جهاتهم، ولم تكن أعداد هؤلاء المهاجرين قليلة، مما جعل الموهوبين والنابهين منهم يستلهمون مدارج الصبا، وأزمان الطفولة في قصائد تتسم بالصدق، والوضوح، وقلة المواربة والإبهام.

وقد أدت صدمة شعراء الريف بمظاهر المدنية الحديثة إلى تداعي ذكريات الزمن الماضي على أذهان الشعراء، بكل ما يحويه ذلك الزمن من عناصر محببة إلى النفوس، فهم يستجيبون لنداء الفطرة، ويأنسون إلى هدوء الطبيعة وأنسها وطهرها، وذلك من خلال استدعاء الزمن الماضي، في محاولة للهروب من آلام الحاضر الذي يرون فيه مبعث الأحزان.

وينتمي جل شعراء عسير إلى بيئة ريفية كانت لهم معها ذكريات عذبة؛ ولذا فإنهم يكثرون من الحنين إلى تلك البيئة، وذلك الزمن، كما أحن الآن إلى سنوات الحماس الماضية، وأزمان الرغبة في الفعل التي لن تعود، وأتذكر – في غمرة حنيني - علي آل عمر عسيري ـ رحمه الله - الذي اختار أن يهدي ديوانه الأول إلى "صبح القرية الذي فقدناه حين نمنا عن الفجر"، وهو إهداء يحمل الكثير من الدلالات على أن الزمن الماضي يشد شعراء عسير إليه شدا:

أنا من صبح القرية..

في الوهج القادم عرسا وسنابل..

لا أحد يعرف صبح القرية..

ألق الطل على ناصية الرمل..

ثغاء الشاء المتعرج في رائحة الهمة والبن..

وبخور الجاوي..

وعصا الراعي ينبض مقبضها..

وتئن..

مسحاة ومناجل..