استكمالا للمقالتين السابقتين عن السياسة الخارجية الروسية والعوامل الرئيسية التي تؤثر في توجهاتها، تجدر الإشارة إلى أن أحد أهم هذه العوامل هو النخبة السياسية المسيطرة على روسيا، حيث إن التحول السياسي الهائل المتمثل في سقوط الاتحاد السوفيتي (وسكرتارية الحزب الشيوعي القوية) نشأ معه بالتبعية تحول كبير في مراكز القوى والنخبة السياسية الحاكمة.

أشار المقال السابق إلى أزمة الهوية التي تعاني منها روسيا، والتي جعلت نخبتها السياسية تتجاذب بين فكرة كون روسيا دولة أوروبية يجب أن تمتد تطلعاتها غربا (توجه أورو-أطلنطي)، أو أنها دولة آسيوية يجب أن تضع محيطها الشرقي نصب عينيها (توجه أوراسي)، وهذه المعضلة الروسية غير القابلة للحل شكلت محور التجاذب الرئيس الذي تتشكل حوله النخبة الحاكمة في روسيا، والتي تلعب دورا مهما في صياغة توجهات وسياسات روسيا الخارجية. إن فهم طبيعة النخبة الحاكمة في روسيا يقود إلى فهم أعمق يفسر توجهات السياسة الروسية ويساعد على إجابة السؤال الذي بات مطروحا اليوم بشكل كبير وهو: لماذا تتصرف روسيا بهذا الشكل؟

يعد النظام الاقتصادي في روسيا نظاما هجينا بين السوق المفتوح كالولايات المتحدة وسيطرة الدولة على الموارد الاقتصادية كالصين، ويؤثر هذا الأمر على طريقة تشكل النخبة السياسية في الدولة وتفاعلاتها وكذلك توزيع القوة في المجتمع.

بعد سقوط الاتحاد السوفيتي إبان فترة حكم الرئيس يلتسن، تجمعت حوله شبكة من رجال الأعمال الجدد وموظفي الدولة عرفت باسم "العائلة"، وانتفعت تلك المجموعة من حالة سيولة الدولة التي حدثت مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وبرزت في تلك الفترة أسماء مثل بوريس بريزوفسكي وميخائيل خودروكفسكي ورومان ابراموفيتش الذين قاموا بشراء بعض مؤسسات الدولة بأسعار زهيدة محققين أرباحا بالمليارات.

دفع الانفتاح الاقتصادي والأرباح التي حققتها النخبة بسياسة روسيا تجاه مهادنة الغرب، وكان توقيع يلتسن لوثيقة التعاون الأميركي-الروسي عام 1992 بمثابة إعلاء للتوجه الأورو-أطلنطي في السياسة الروسية، لكن معارضة المؤسسة الأمنية لهذا التوجه وعدم مساعدة الغرب لروسيا على الخروج من أزمتها الاقتصادية بعد الانفتاح دعم شوكة أصحاب التوجه الأوراسي، وهو ما تترجم بمجيء وزير الخارجية يفجيني بريماكوف عام 1996 وسياسته التي عرفت بـ"مبدأ بريماكوف" الذي يعلي من فكرة كون روسيا دولة عظمى يجب أن تظل تقارع الغرب سياسيا.

مجيء الرئيس بوتين عام 2000 - الذي نظر له على أنه ممثل المؤسسة الأمنية - شكل استمرارا لهذا النمط، وشهدت بداية حكمه صراعا مفتوحا مع شبكة النخبة القائمة، أبرزها صراعه مع الملياردير خودروكفسكي (مالك شركة يوكس للنفط)، من أجل توسيع دائرة سلطة الدولة (على سبيل المثال: ارتفعت ملكية الدولة لمصادر النفط من 13? في 2004 إلى 55? عام 2013).

اعتمد بوتين في تثبيت أركان حكمه على مجموعة من رجال الدولة المنتمين للمؤسسات الأمنية عرفت باسم "سيولوفيكي"، وتعني "الرجال الأقوياء" أمثال ميخائيل فرادكوف رئيس جهاز الاستخبارات حاليا وسيرجي إيفانوف رئيس الديوان الرئاسي (الكرملين) حاليا، وإيجور سيتخين (نائب رئيس الديوان الرئاسي سابقا). وتؤمن هذه المجموعة بأن مصلحة روسيا الأساسية هي في حماية محيطها الجغرافي من التأثير الغربي واعتماد سياسة مناوئة للغرب. وتعد رؤى المفكر الروسي ألكساندر دوجين المقرب من الرئيس بوتين ومؤسس "حزب أوراسيا" مثالا للجانب المتطرف من رؤية مجموعة "السيلوفيكي" لما يجب أن تكون عليه سياسة روسيا الخارجية. باختصار، يمكن القول إنهم يرون أنفسهم سوفيت لكن ليسوا شيوعيين، واهتمامهم الأول هو الأمن القومي الروسي. في مقابل هذا نشأت نخبة أخرى مدفوعة بقاعدة رجال الاقتصاد والقانون والأعمال عرفت باسم "سيفيليكي" Civiliki تمحورت رؤيتها حول فكرة أن مصلحة روسيا تكمن في الانفتاح على الغرب والتطوير الاقتصادي. ولموازنة هذه المجموعة سياسيا استدعى بوتين أحد رموزها ديمتري ميدفيدف ليكون رديفه في الكرملين. ومن الجدير بالذكر أن كلا من بوتين وميدفيدف اللذين ينتميان لمدينة بطرسبرج قد درسا وعملا مع أستاذ القانون أناتولي سوبتشاك خلال توليه منصب محافظ بطرسبرج، ولكن على العكس من بوتين الذي عمل لفترة في جهاز الاستخبارات السوفيتي، فإن ميدفيدف رجل قانون لم يعمل إلا في المجال المدني. ويمكن القول إن سياسة روسيا اعتمدت لفترة على التوازن بين هاتين المجموعتين: السيلوفيكي ويمثلها بوتين والسيفيليكي ويمثلها ميدفيدف، وانعكس هذا التوازن على توزيع المناصب حيث تولى رموز السيلوفيكي بعض وزارات الدولة كالخارجية والداخلية والاستخبارات، بينما تولي رموز من السيفيليكي وزارات المالية والاقتصاد والعدل، حتى بعض مؤسسات الدولة انقسمت بين المجموعتين، ففي حين كانت شركة الغاز العملاقة "جازبروم" تحت سيطرة السيليفيكي كانت شركة النفط "روسنفط" تحت سيطرة السيلوفيكي.

على أن الصراع الأبرز بين هاتين المجموعتين كان داخل الكرملين من أجل التأثير على صناعة القرار الروسي، وكان ممثل السيفيلكي في الكرملين فلاديسلاف سوركوف (النائب الأول لرئيس الديوان الرئاسي ولاحقا نائب رئيس الوزراء) نجم السياسة الروسية خلال العقد الماضي، حيث استطاع الدفع بعدد من الأفكار والسياسات التي غيرت وجه روسيا، مثل حل مشكلة الشيشان من خلال صديقه رمضان قاديروف (الرئيس الحالي لجمهورية الشيشان) وإنشاء حزب روسيا المتحدة (الذي ينتمي له بوتين وميدفيدف)، وكذلك فكرة "الديموقراطية السيادية" حيث دعم إنشاء أحزاب معارضة صغيرة، عدا عن دعمه لمشروع سكولكوفو الذي أراد أن يكون نسخة روسية من وادي السيليكون في أميركا.

وتختصر الصورة الشهيرة التي جمعت أوباما بالرئيس ميدفيدف حينها وهما يتناولان وجبة "هامبرجر" خلال زيارة الأخير للولايات المتحدة جوهر رؤية السيليفكي لسياسة روسيا. ففي عام 2009 تحدث ميدفديف في خطابه السنوي لمجلس الدوما (البرلمان) عن أخطاء الماضي وأهمية تحديث الدولة، وأطلق مشروعا طموحا في هذا الشأن يعتمد على الشراكة مع الغرب. وفي 2011 انضمت روسيا لمنظمة التجارة العالمية وتحدث ميدفيدف عن أهمية خصخصة القطاع العام. في المقابل تحدث الرئيس بوتين في خطابه أمام الدوما عام 2012 عن تاريخ روسيا الفريد في الألف عام الماضية وعن القومية الروسية، وقامت القوات النووية الروسية في نفس العام بتدريبات عسكرية تستهدف "فرد العضلات" أمام الغرب.

وفي 8 مايو 2013 قدم سوركوف استقالته (المؤشرات تقول إنها إقالة مبطنة) فيما يبدو أنه انتصار لمجموعة السيلوفيكي على غريمتها السيفيليكي، ثم في 9 مايو (عيد انتصار القوات السوفيتية على القوات النازية الألمانية) حضر الرئيس بوتين عرضا عسكريا هائلا في الميدان الأحمر وألقى خطابا جماهيريا نادى فيه باستعادة المجد السوفيتي متوعدا أي جهة تريد الإضرار بروسيا.

إن طبيعة النظام السياسي والاقتصادي الروسي لا تجعل جهة واحدة داخل روسيا مركز القرار أو صاحبة القوة والشرعية التي تمكنها من فرض رؤيتها، وبالتالي تلعب النخبة السياسية وشبكة العلاقات بين رجالها دورا محوريا في توجيه السياسة الروسية، ولذلك فإن فهم مزاج ورؤية هذه النخبة يقود إلى فهم أفضل لسياسة روسيا، ويبدو اليوم أن مجموعة السيلوفيكي هي التي تتصدر المشهد الروسي.