.. والمدخل الذي أسبح فيه اليوم إلى نهر ذات الفكرة، ليس إلا تواتر ذات القصة ما قبل البارحة في جلسة نخبوية خاصة، فكأن النقاش الساخن ـ أول من أمس ـ هو نسخة من لقاء قديم في مؤتمر كانت أوراقه هي ذات العنوان: أحلام العودة إلى دولة الخلافة.

في ربيع 2006 دُعيت إلى ندوة مغلقة في "شاتام هاوس"، ضمن سلسلة طويلة من الندوات في هذا البيت الاستشاري عن أنظمة الحكم وأشكال الإدارة الحكومية حتى وصل العنوان إلى: مفاهيم إعادة دولة الخلافة.

وعلى طاولة البيت اللندني الشهير اصطفت ـ من جغرافية العالم العربي ـ أسماء ومدارس ونماذج متباينة، من كمال الهلباوي إلى سعد الدين إبراهيم، ومن راشد الغنوشي إلى المنصف المرزوقي، ومن جمال البنا إلى المفكر المغربي الطيب وهو يوزع كتابه: "عدمية التاريخ"، فكأن أحدا لا يقرأ في هذا العالم العربي.

تذكرت في جلستي النخبوية العاصفة مساء ـ أول من أمس ـ أن هذه الجلسة القصيرة تختزل حوارات مؤتمر القديم في "شاتام هاوس" لأيام ثلاثة.

نحن لا نقرأ حقائق التاريخ، ولا نستوعب بعد سبعة آلاف عام من التاريخ البشري المدون أن التاريخ لا يكرر نفسه مع طبائع الاجتماع الإنساني، ولا يستعيد في المطلق نسخة من أنظمة الحكم وأشكال الإدارة الحكومية.

نحن نعيش في وهم الكذبة الكبرى أن (التاريخ يعيد نفسه)، ولكن في القصص والحوارات والعبر. في الدقائق والتفاصيل الصغيرة، ولكن المجتمع البشري مع أنظمة الحكم وأشكال الإدارة لا يعود أبدا إلى المربعات التي تمت تجربتها من قبل.

نحن نتجاهل أن هذا ضد الفطرة البشرية للتطور الإنساني مع التجارب، من البدهي الثابت بالبراهين أن أحقاب التاريخ وقرونه مع أنظمة الحكم، ومع الشعوب لا تتشابه ولا تستعيد (نمذجة) نظام سابق بالاستنساخ إلى نظام حديث.

وعلى مستوى (الماكرو) الأوسع من تاريخ الحكم في العالم القديم (أوروبا والشرق الأوسط)، فإن أحلام عودة الخلافة وهم أسطوري لا يشبه إلا أحلام الجيران النرجسية بعودة إمبراطوريات الإغريق والرومان والفراعنة، وهذه أحلام ضد طبيعة التاريخ، وضد مجرى التجربة الإنسانية بالتطور والاستبدال.

أحلام العودة إلى النظم الإمبراطورية أو نظم الخلافة هي مثل الأحلام المستحيلة بإعادة مياه النهر من المصب إلى المنبع، لأن التاريخ لا يشبه مع الشعوب البشرية إلا حركة النهر التي لا تعود فيها القطرة إلى المربع الذي اجتازته وسبحت فيه من قبل.

خطورة مثل هذه الأوهام أنها تلهي الشعوب عن الالتفات لواقعها ومستقبلها، لأنها تسبح ضد تيار التاريخ، وضد الفطرة الإنسانية التي تجنح إلى (التجريب) بالبراهين التاريخية، لا إلى إعادة (التجربة).

وعلى مستوى (الماكرو) الأضيق فنحن مع هذه الأوهام لا نقرأ حتى تاريخنا الإسلامي المجرد، الذي لا تتشابه فصوله وأنظمة حكمة على الإطلاق، بين حقبة وزمن وقرن مع الذي يليه.

أعطانا تاريخنا المزور في كثير من حقائقه ووقائعه صورا نرجسية خيالية عن هذه الأنظمة، ولهذا نمشي برقاب معكوسة تنظر دائما إلى الوراء.. إلى الأنموذج المتخيل دون أن نضع القدم في الأمام والمستقبل، ولهذا فالتاريخ وحده ـ قراءة وتدبرا ـ هو من وضعنا في ذيل الأمم العولمية في عوالم اليوم.

لم يتدبر منظرو أوهام الخلافة، أن الخلافة الراشدة نفسها كانت أربعة فصول متباينة وأن هذه الفصول مرت بمخاضات بالغة التكلفة في النهايات. هذا ما تخفيه ـ عمدا ـ أوراق التاريخ.

لم يقل أحد من منظري التاريخ أن بني أمية انتظروا أربعين عاما كي يفهموا قواعد الثمرة، ثم قطفوها حين عرفوا أن الحل هو التركيبة السحرية ما بين غطاء الدين وحكم القبيلة في دولة فدرالية.

لم يتدبر أحد من منظري أوهام الخلافة أن بني العباس كانوا على النقيض دولة (كونفدرالية)، لأن الاتساع الجغرافي والعرقي وحركة (التجريب) لا تتماشى مع إعادة (التجربة).

لم يقل أحد من منظري أوهام التاريخ أن بني عثمان بن آرطغل كانوا فكرة عسكرية وعرقية استثمارية لشعوب هذا العالم العربي، وأنهم تحت راية (الخلافة) كانوا أول من وضع هذا العالم العربي تحت راية الجهل والفقر في الوقت الخطأ، وهو وقت بدء حركة النهضة العالمية.

والخلاصة في جملة أخيرة: أنموذج الحكم لا يُستعاد، لأن هذا ضد نهر التاريخ وبحر التجريب الإنساني.