-1-

في مقالنا السابق وعدنا القراء بالحديث عن التراجيديا المؤلمة، التي يعيشها العراق المنكوب الآن.

فقبل 2003، كنا نظن أن قومية العراق العربية، سوف ترفعنا من القاع الذي كنا فيه، فلم تفعل.

كنا نظن أن الأسلاف الذين كانوا في العراق، سوف يشفعون لنا من السقوط في الهاوية، فلم يتم ذلك.

لم ينقذنا شعر الحماسة، والبطولة، والفداء، في "مهرجانات المربد" الشعرية، من السقوط في هذا القاع.

لم تنفع خطب الزعماء الخالدي الذكر في الذاكرة العربية المثقوبة، من أن تجنبنا السقوط في قاع العالم.

لم تنفع الشعوذة، والسحر، والجان، وأناشيد الصوفية، وبركات الأسياد، من إنقاذنا من السقوط في بئر العتمة.

-2-

اليوم يعيش العالم العربي الوهم من جديد بالنسبة للحالة العراقية. وهذا الوهم، هو امتداد للوهم القومي، والوحدوي، والديموقراطي، والاشتراكي، والعسكري، الذي عاشه العالم العربي، منذ نصف قرن ويزيد.

فلا يزال كثير من مثقفي العالم العربي يعيشون وهم الوحدة، ووهم الحرية، ووهم الديموقراطية التي ستأتي من الداخل على حصان عربي أبيض. ومن أن صلاح الدين سيظهر من جديد ليجدد مجد هذه الأمة. وأن قدر هذه الأمة هو هذا الصدام الدموي مع الآخر.

ولم تختلف لغة العام الثالث عشر من القرن الحادي والعشرين عن لغة الخمسينات والستينات من القرن العشرين، وما تم هو أن الألسن تغيرت، وبقيت الكلمات دون تغيير، وأن الأقنعة قد تبدلت وبقيت العقول دون تغيير.

بل إننا نلاحظ أن العقلانية والواقعية السياسية والوعي العام في النصف الثاني من القرن العشرين كان أفضل مما هو عليه الآن.

-3-

فالعالم العربي بمجمله ما زال يراهن على عودة حكم حزب البعث إلى العراق، وجزء آخر من العالم العربي الذي ما زال يعيش في الوهم، يراهن على عودة صدام، ويُطلق عليه الرمز، والضرورة، والشهيد، الذي لم يمت بعد!.

والعالم العربي الذي يعيش في الوهم، يعتقد في مجمله أن "المقاومة" في العراق، التي هي في حقيقتها "مقاولة" إرهابية وليست "مقاومة" وطنية، بمعنى أنها مجموعات من المقاولين المسلحين، ومن المرتزقة العربية المهزومة في أفغانستان والشوارع العربية، والفاقدة لكل أمل في المستقبل، والخاسرة لكل رهانات الحاضر.

والعالم العربي الذي يعيش اليوم في الوهم، كان يعتقد أن الخلاص من الدكتاتور خلاص من القهر، والظلم، والظلام، والعتمة السياسية، والاجتماعية، والفساد المالي، والسياسي، فإذا به يفاجأ بما كان عليه الوضع العربي عشية الاستقلال في القرن العشرين، من أن لا كوادر وطنية هناك تستطيع الحكم باقتدار، وشفافية، ونزاهة تامة. وأن الإمساك بالنحس خير من مجيء نحس أكثر منه عتمة وظلاما، كما يتم الآن في أنحاء متفرقة من العالم العربي، وأن المواطن انتقل من تحت الدلف إلى تحت المزراب، كما يقولون.

-4-

العراق اليوم، يشهد تراجيديا أكثر مأساوية من أي تراجيديا إغريقية أو بشرية أخرى في التاريخ، وتتمثل في بعض مما يلي:

1- عدم البناء الاقتصادي، أو السياسي، أو الاجتماعي الذي كان ينتظره العراق منذ 2003 ، حتى الآن.

2- عدم إعادة بناء الجيش العراقي البناء العسكري المتين الذي يستحقه.

3- انتشار الفساد المالي، بشكل واسع وكبير، بحيث قالت "منظمة الشفافية الدولية" الألمانية: "إن الفساد المالي في العراق ليس له مثيل في التاريخ البشري كله".

4- تحكُّم الحزب الواحد في مقدرات البلاد من النواحي كافة، وعلى المستويات كافة.

5- سيطرة دول إقليمية ذات أجندة سياسية معينة، على مقدرات العراق.

-5-

والسؤال هنا هو:

لماذا عاش العالم العربي كل هذا الوهم، طيلة أكثر من نصف قرن مضى؟

إن الجواب عن هذا السؤال، يتلخص في أن العالم العربي عالم جبان مع نفسه، خادع لنفسه، ليست لديه الشجاعة الكافية للاعتراف بالحقيقة الواقعة على الأرض، كما تم في اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وأن العالم العربي ليست لديه الشجاعة الكافية كي يعترف بقصوره الذاتي، وبضعفه، وفقره، وجهله، وقلة إمكاناته العلمية، والعملية.

لذا، فهو لن يتقدم، ما دام يعتبر نفسه متقدما غير متأخر.

وهو لن يتعلم، ما دام يعتبر نفسه متعلما غير جاهل.

وهو لن يسعى إلى القوة، ما دام يعتبر نفسه قويا غير ضعيف.

إن هذا التضخم العُصابي، وهذا الانتفاخ المرضي، وهذه النوستالوجيا المتمثلة بالرضوخ المُذل لأمجاد الماضي الفانية في الذات العربية، وهذه الفوبيا "الرُهاب أو الهلع المرضي" كانت سببا في أننا نعيش وهما كبيرا.

فالعالم العربي ما زال يعتقد إلى الآن، أن من ليس له أول، ليس له آخر، وأن القدامة خير من الحداثة، والسلف خير من الخلف. وأن حكم الأسلاف من القبور خير من حكم الأخلاف من الثغور.

-6-

العالم العربي ما زال إلى الآن، يتوهم بأن الأندلس عائدة، وفلسطين كاملة من النهر إلى البحر عائدة، والإسكندرون عائدة، وأن حكم صدام حسين عائد إلى العراق، وأن صدام كما انتصر في حرب الخليج 1991 من وراء الكثبان، سوف ينتصر الآن، من وراء القضبان!.

المشهد العجائبي أن لا شعب عربيا حتى الآن، اعترف بأنه كان يتوهم، وأعلن توبته عن التوهم.

لهفي على هذا العراق الذي كان في الزمن الغابر أما لكل الحضارات، وأبا لكل التاريخ الإنساني، فأصبح اليوم بفعل فاعليه صحراء قاحلة حتى من الجراد.