تنبئ الانتخابات الرئاسية الإيرانية عن تحول قادم في سياسات الجمهورية الإسلامية التي كاد طريقها إلى وحدة وتكامل وقوة الجهد المشترك مع أشقائها في العالمين العربي والاسلامي يزيغ عن جادة الصواب.

ومن الخفة النظر إلى ما ساد هذه الانتخابات من معطيات هامة كما لو أنها مسألة اعتيادية أو ضرب من ضروب التكتيك السياسي الآني، وما لا شك فيه أن انقسام تيار المحافظين واضطراره إلى خوض الانتخابات بخمسة مرشحين يمثلون السقف الأعلى من التوافق على تطويق أزمتهم الداخلية مقابل مرشح وحيد عن التيار الإصلاحي المعتدل، ومثّلَ حصول الأخير على ثقة ثلثي أصوات الجمهور الناخب "الهيئة الناخبة" مفارقة استثنائية في تاريخ الثورة الإسلامية الإيرانية منذ انطلاقتها في النصف الأخير من القرن العشرين بقيادة الإمام آية الله الخميني.

والواقع أن هذه الثورة رغم عديد ملاحظات عامة شابت توجهاتها إلا أنها استطاعت تقديم نفسها ضمن أهم أسباب الحفاظ على ما تبقى من عوامل التوازن في مضمار الصراع القطبي الذي اختلت معادلاته إثر انهيار المنظومة الاشتراكية، وهو الأمر الذي تهيأت على تخومه محاور دولية تحول أو بالأصح تحد من الاستفراد بقيادة العالم وانتقال الرأسمالية العالمية إلى إمبراطورية تفرض هيمنتها المطلقة على خيارات ومصالح الشعوب وتوزع فوضاها الخلاقة تبعاً لذهنية سايكس بيكو وهندسة الاستعمار الحديث وصولاً نحو تمثلات تطبيقية فيما يدعى بالشرق الأوسط الجديد.

سيقال تأولاً وما الذي بيد رئيس الجمهورية الجديد عمله إذا كان القرار الإيراني ينبع من مصادر قوة أخرى تجتمع مفاتيحها في متناول المرشد العام للجمهورية السيد علي خامنئي المحروس برماح وغلبة الحرس الثوري ووصايا الحوزات الاثني عشرية، وهو تأول لا يخلو من واقعية إسناد، غير أن المتغير الانتخابي وانقسام الجبهة الأخرى الأقرب إلى هؤلاء لا يمكن تصوره رضوخا لقوة الأمر الواقع قدر دلالته على رغبة مزدوجة للخروج بالجمهورية الإيرانية من عنق الزجاجة والتوجه بهذه الدولة صوب آفاق مستقبلية ترمم صدع علاقتها بالأشقاء وتستعيد زمام السيطرة على بؤر وجماعات السلاح المعتمد توكيلاتها من الحوزات الدينية بهدف تسعير الأوضاع في الأقطار العربية التي تكابد مشاق الصراع المذهبي المرتبط بأجندات خارجية تتصدر الجمهورية الإيرانية قائمتها.

والمؤكد أن الانتخابات الرئاسية وتسنم الرئيس السيد حسن روحاني بعلاقاته القوية مع الإصلاحيين ومواقفه المعتدلة التي أفصح عنها خلال فترات سابقة من شغله مواقع قيادية وأمنية متعددة، إضافة إلى موقفه المعروف حول (التزام إيران بعدم التدخل في شؤون دول مجلس التعاون الخليجي). هذه الانتخابات لا تدع مجالا للشك بتلاقح وانسجام رغبتين، إصلاحية وأصولية، بضرورة انتهاج طريق الاعتدال في السياسات الإيرانية، اذ لولا وجود الرغبة المسبقة لدى المرشد الأعلى ومكامن قوته ما خاض المحافظون معركتهم الانتخابية بهذا العدد غير المعقول من المرشحين. ولو لم تعكس تلك الرغبة حاجة وميول الشعب الإيراني وشرائحه الوسيطة المعتدلة ما كان للانتخابات أن تتم بمثل ذلك القدر من السلاسة والانسيابية والقبول المبكر بنتائجها لدرجة تغري على الاعتقاد بأن الرجل دخل الانتخابات على قاعدة وفاق مسبق حول نتائجها.. ومن يدري فربما كان نموذج الديمقراطيات العربية وانتخاباتها الرئاسية المرضى عنها أميركياً، محل عناية وتطوير إيرانيين.. ومع ذلك، فطالما كان بمقدور الحكومات والشعوب ترجمة إرادتها بطريقة تفضي إلى نتائج يدافع عنها المجتمع، فذاك عين الديمقراطية، إذ ليست المشكلة أيّ الأنماط أجدى، ولا أي الوسائل أفضل لممارسة القواعد الديمقراطية، ولكن الأهم الوصول إلى مُخرج يوافق قناعة المجتمعات ويحقق مصالح الأوطان.

والسؤال هنا ليس عن الانتخابات ولا أيضاً عن نتائجها، فكلا الأمرين صارا واضحين، ولكن من أي المحطات سيبدأ الرئيس حسن روحاني مهامه الإصلاحية، من الجبهة الداخلية التي حشدتها المخاطر السياسية والاقتصادية حول صناديق الاقتراع أم من الاختلالات المروعة في علاقات الدولة بمحيطها الإقليمي والدولي؟ وما هو المدى الزمني المتوقع للإصلاحات المطلوبة؟

روحاني، ولا شك، يقف في مواجهة تركة شائكة الإرث، متفاوتة الجبهات.. والأرجح أن أولى الصعوبات التي تعترض تجربته ليست إلا طابع العجلة التي ستبدو عليها مطالب الخارج.. أحيانا يكون عامل الزمن أهم من قدرات البشر، وفي أحوال وتجارب هامة من التاريخ لا يستطيع أحدهما أن يضغط على الآخر فوق احتماله، ما يستدعي البحث عن الإنجاز داخل متاحات الزمن لا بمقتضى الرغبات المتسرعة.. وإذا كان الرئيس الإيراني السابق نجاد قد كسب عداءات القريب والغريب، وجعل بلاده طرفاً في كل صراع داخلي ينشب في هذه الدولة أو تلك وحيث أفلحت سياساته المتطرفة في استعداء دول العالم ضد المشروع النووي لبلاده وبما اختطه من نماذج غير ودية تجاه العراق والبحرين والإمارات ولبنان وسورية واليمن، فإن أي جهد يعول على رئيس الجمهورية الإسلامية الجديد القيام به لن يكون سهلاً ولا يمكن مباشرته بحزمة من القرارات الآنية، هذا في حال ثقة الأطراف المتضررة من السياسات الإيرانية القديمة بوجود متغير جدي يبعث على الاطمئنان بمصداقية المستجدات الناجمة عن الانتخابات..

والأصل في أي قراءة موضوعية لمجريات الأوضاع في هذا البلد أن تنبع توجهات القيادة الإيرانية من ضغط شعبي يفضي إلى قناعة ذاتية مستقرة بأن المصلحة الوطنية تتطلب إعادة النظر في معظم توجهات الجمهورية الإسلامية وأن هذا وحده ما يجعل منها جاراً مرحبا به وشقيقا غير ذي وصاية، ومتى أمكن ذلك ستجد إيران مكانها في قلب الأمتين العربية والإسلامية دون حاجة إلى أحراش أو جماعات سلاح..!