لاري لويس، بروفيسور أمريكي في السبعين من عمره يتذكّر قبل نصف قرن من الزمان عندما حصل على دبلوم المحاسبة من إحدى الكليات الصغيرة ليعمل بموجبه في الإدارة المحاسبية لإحدى الشركات. آنذاك، كان أبوه يعمل حفّاراً لآبار النفط في مدينة كانساس، يعود كل مساءً إلى بيته مغطى بالغبار إذا كان سيئ الحظ، أو بالسائل الأسود إذا ابتسمت له الأقدار. في الحالتين يعود متسخاً ومنهكاً ككل العمّال الكادحين الذين ارتفعت على كواهلهم أغلب البنى التحتية لبلاد الأحلام كما يعرفها العالم اليوم.

ذلك اليوم، عندما تسلم ابنه الشاب وظيفته الجديدة، وزفّ الخبر السعيد إلى أبيه مساءً، سأله عن تفاصيلها فأخبره بما سيقوم به كل يوم من مهام المحاسبين كتسجيل القيود ومتابعة المال ورصد الإيرادات والمصاريف وغيرها، فسأله أبوه متعجباً من كلامه: وهل سيعطونك راتباً فقط لأنك تجلس في مكتب وتحسب بعض الأرقام؟

دهشة الرجل المسنّ الذي شبّ في بدايات القرن العشرين تنبئ أن ثقافة العمل آنذاك في أمريكا كانت تقوم على أن الأصل هو العمل اليدوي، والاستثناء هو العمل المكتبي. وهو الأمر الذي لا يختلف في المجتمعات الأخرى آنذاك، ولاسيما عندما كان القطاع الرئيس في الاقتصاد هو الزراعة التي تتطلب عملاً يدوياً مباشراً، والقليل جداً من التخطيط والتنظيم. مجتمعنا السعوديّ كان كذلك أيضاً، وجيل الأجداد لا يخلو من فلاح أو بنّاء أو راع أو صانع أو عامل بسيط في أرامكو، وغيرها من الوظائف التي لم نعد نرى سعودياً يقوم بها الآن إلا فيما ندر. تغيّر المجتمعان، الأمريكي والسعودي، ليصبح العمل اليدويّ مقصوراً على طبقاتٍ اقتصادية محدودة الدخل، مع فروقاتٍ جوهرية في آلية التغيّر لا يجب أن تُغفل في هذه المقارنة.

جيل البروفيسور لويس كان يشكل الثمار الأولى للنهضة الاقتصادية في أمريكا. التوسع الكبير في التعليم الجامعي الذي شهدته الولايات المتحدة قبلها بعقود أفرز ملايين العقول التي راحت تراقب ما يقوم به الآباء والأجداد من أعمال، ثم تفكر في إحداث النقلة النوعية. كانت الزراعة آنذاك لا تزال تقاوم العملاق الصناعي الذي ولد في نهايات القرن التاسع عشر وما زال يزحف في القارة الجديدة بدأب. ارتفعت ناطحات السحاب في نيويورك وشيكاغو دون أن تتأثر المزارع هائلة المساحة في ولايات الجنوب. مشى الاقتصاد الأمريكي آنذاك على قدمين من الزراعة والصناعة، واستطاع أن يطعم الأمة الأمريكية التي كانت تتمتع بمعدلات إنجاب مرتفعة مثلما استطاع أن يضع الأسس الوطيدة لعمالقة الصناعة في العالم مثل شركة فورد وبوينج وجنرال إلكتريك وآي بي إم وغيرها.

مرت عدة عقود وهذا التوازن الاقتصادي يرفع من مستوى معيشة الفرد الأمريكي حتى تحققت له رفاهية لم تتحقق حتى لنظرائه الأوروبيين. ولكن مشكلة الرفاهية أنها لا تحفز الفرد لأن يصنع ولا يزرع، بل يستهلك. هكذا انحسر القطاع الزراعي الأمريكي بسبب تراجع العوائد وعدم إقبال الأجيال الجديدة عليه، وانحسر القطاع الصناعي بسبب المنافسة الدولية الحادة وارتفاع تكلفة اليد العاملة الأمريكية، واحتل هذه المنطقة المنحسرة القطاع الخدميّ الذي يقتات على الملايين من الأمريكيين المتخمين بالدخول المرتفعة والثقافة الاستهلاكية حتى لم يعد مستغرَباً أن يشكّل القطاع الخدميّ الآن ما يقارب السبعين بالمئة من الناتج القوميّ الأمريكي.

خمسون سنة تقريباً منذ أن تسلم البروفيسور لاري لويس وظيفته المحاسبية التي أدهشت أباه حتى أصبح أبناؤه يندهشون لو أنه نصحهم يوماً بالعمل في حقل نفط أو مزرعة فاكهة. بينما تمت هذه النقلة الكبيرة في الاقتصاد السعوديّ في أقل من عشرين سنة. هذا يعني أن جيلاً واحداً شهد هذه النقلة، فلم يشهدها الجيل الذي قبله ولم يسمع بها الذي بعده. هذه النقلة السريعة جداً للمجتمع تشبه أن يختصر الطالب سنوات التعليم النظامي في خمس سنوات فقط، تاركاً وراءه العشرات من الدروس الفائتة، والفوائد المنسية، والعبر المهجورة. هذا يعني أن جيل لاري لويس مفقودٌ في مجتمعنا، عكس جيلي أبيه وأبنائه، ولكن المشكلة أن جيله في الولايات المتحدة هو الجيل الذي سجلت فيه أكبر إنجازات الأمة الأمريكية لأنه جنى فوائد مرحلتين، بينما لم تتح لمن هم في عمره من السعوديين هذه الفرصة بسبب ظروف المجتمع.

كثيرون كتبوا من قبل عن المساوئ الاجتماعية للطفرة إزاء المكاسب الاقتصادية التي تحققت، ولكنا لا نتحدث الآن عن تراخي قيم العمل وأخلاقياته، ولا عن ثقافة الاستهلاك الطاغية، فهذا ما ابتُلي به المجتمعان معاً بنسب متفاوتة، ولكننا نتحدث بلغة اقتصادية بحتة: عن الإهمال الشديد الذي تعرضت له قطاعات هامة ومفصلية في الاقتصاد الوطنيّ جعلتنا في آخر المطاف نعقد صفقات غذائية مع دول أخرى لضمان الأمن الغذائي، ونستقدم كماً من البشر يعادل عددهم ربع شعبنا ليبنوا لنا بيوتاً ومصانع وجسوراً، في حالة فادحة من الاتكالية الجماعية لا يمنعنا أثناءها من السقوط المريع إلا اعتمادنا على الاقتصاد الريعيّ الذي يدره علينا النفط.

صحيح أن أبرز أوجه التشابه بين المجتمعين الأمريكي والسعودي هو طغيان ثقافة الاستهلاك، ولكن الفرق أن الأمريكي يشتري ويبيع لنفسه، بينما السعودي يشتري من غيره دائماً، وبالتالي فإن الأثر السيئ لثقافة الاستهلاك على الأمريكي يكمن في تضخم الكيانات الرأسمالية وانحسار الطبقة المتوسطة، ولكن السعودي سيعاني من هذه الآثار السيئة مضافاً إليها أيضاً تداعي مقومات الأمن الاقتصادي، وبالتالي كل مقومات الأمن الأخرى.

تراجع الصناعة والزراعة في الاقتصاد الأمريكي لا يعني اختفاءهما ، فلا تزال أمريكا أكبر مصدّر للغذاء في العالم، ولا تزال أكبر مصنّع في العالم، بينما نجد الاقتصاد غير النفطيّ في السعودية لا يكاد يذكر إزاء ريع النفط المتدفق إلى أمد. فلا نحن زرعنا ما يقيم الأود، ولا صنعنا إلا ما سخّره لنا النفط من صناعاتٍ مرتبطة به. هذا يعني أنه لزمنٍ طويلٍ أضعنا فرصة تنويع الاقتصاد التي لا يختلف عليها اثنان، وتأخرنا كثيراً في رسم الخريطة الإستراتيجية للتنمية حتى أصبحت التنمية معادلة صعبة لا نعرف حلها.

جيل لاري لويس لن يعود، ولذلك على الأبناء أن يستوردوا الحكمة الاقتصادية من مجتمعات العالم. الحكمة التي لا تتشكل إلا بين مرحلتين، وتتطلب وقتاً كافياً للاختمار. الحكمة التي تفرّ من أيدي الأمريكيين الآن بعدما بدؤوا يستنكفون عن العمل في الحقول ويأنفون الضجيج في المصانع، والتي لم تستقرّ في أيدينا يوماً بسبب انتقالنا الضوئي بين مرحلتين، وتوهمنا أننا لم ننس شيئاً، ولا نحتاج أحداً.