قد يكون عنوان المقالة بديهيا لأغلب القراء، فالكل يشتكي من جودة التعليم المقدم لأبنائهم سواء في القطاع الحكومي أو الخاص إلى حد كبير، لكن ضرورة إصلاح التعليم السعودي أصبحت حتمية لأسباب اجتماعية واقتصادية تتعدى مصلحة الوالد الذي يريد تعليم أبنائه على أفضل وجه لتأمين مستقبلهم.

يجب أن يتم إصلاح التعليم السعودي فورا، لأن اقتصادنا المتثاقل بالكوادر البشرية المتواضعة في إنتاجيتها لن يصبح قادرا على الازدهار في المستقبل القريب إذا استمر الحال على ما هو عليه. قتلت الرفاهية الممولة من البترول الفكر وتقدم العلوم سواء الإنسانية أو العلمية، لأننا ببساطة نستطيع تمويل طرق مختصرة تشتري الشعور بالإنجاز بدون الاستثمار في البنية التحتية للكادر السعودي، وبالاعتماد على التعاقد مع الخبرات الأجنبية، سواء في أعلى السلم الوظيفي أو في أسفله. إن استطعنا بأريحية تحمل ثقل هذا الكادر اليوم، فالحمل سيغدو ثقيلا جدا على الاقتصاد السعودي إن لم يقم التعليم بدوره في تنشيط قدرات شبابنا بمستوى التنافسية العالمي المتوقع منهم. مدارسنا الآن تعد أبناءنا بشكل جيد لاقتصاد اليوم الذي لا يعتمد على المعرفة والإبداع كمصدر دخل.. لكن ماذا عن المستقبل؟ وهل سيظل العالم معتمدا علينا في ظل الأبحاث والمشاريع التي تدعم الطاقة المتجددة؟ يوجد العديد من الوسائل والطرق لدعم الشباب، مثل برامج التدريب والتطوير أثناء العمل، لكن يعتبر التعليم من أهم المؤسسات التي تتعامل مع أكبر شريحة مجتمعية بشكل مباشر وعلى مدى فترة زمنية طويلة. كل التطورات التي يشهدها التعليم الخاص والمدارس العالمية التي نتسابق لتسجيل أبنائنا بها ليست إلا تمثيلا بسيطا لعينة مجتمعية صغيرة لا تمثل التعليم أو المجتمع السعودي بأي شكل من الأشكال.

يجب أن يركز التعليم العام على مهارات القرن الواحد والعشرين في التفكير، في احتياجات سوق العمل الحالية والمستقبلية لتأسيس الطلاب عليها منذ الصغر، على مهارات الريادة في الأعمال والتعامل بنجاح وبدون عنصرية مع كافة الجنسيات والأديان لخدمة البشرية. لن نعتمد على تصدير البترول كمصدر دخل للأبد، فإن لم ينضب فلن تظل دول العالم بحاجة إليه كما هو الحال اليوم. المنتج الوحيد المضمون، والذي لا يمكن أن ينضب هو الإنسان، ولهذا يجب أن يتطور التعليم العام الذي يلتحق به الغالبية العظمى من أبناء الشعب.

يوجد بعد اجتماعي هام يغفل عنه الكثيرون عند الحديث عن تطوير التعليم العام. فلا يوجد أهم من المدرسة كمؤسسة تدعم تلاحم كافة أبناء المجتمع، بغض النظر عن فروقاتهم الثقافية والمادية. عندما توجد مدارس أهلية وعالمية قليلة في المجتمع تقدم تعليما يحترم متطلبات هذا القرن وتفرض رسوما عالية من الأهالي للالتحاق بها، فإنها تتحول تلقائيا لوسيلة تؤكد الفوارق الاجتماعية ولا تتقبل الخلفيات الثقافية المتعددة الموجودة في مجتمعنا. هذه المدارس عبارة عن مصانع تنتج منتجات تنافسية، تملك مهارات التفكير اللازمة، تتحدث أكثر من لغة، لكنها معزولة اجتماعيا، ولا تعرف كيف تتواصل مع غالبية الشعب السعودي، وأحيانا لا تتشارك معه في شيء سوى مسمى الجنسية. والنقطة الأهم في هذا الحديث أن مثل هذه المدارس لا تستثمر جهودها إلا في نسبة بسيطة لا ترى بالعين المجردة مقارنة بغالبية أبناء الشعب الذين يرتادون المدارس الحكومية (هذا إن افترضنا أن كافة المدارس الأهلية تقدم تعليما عالي الجودة!). الجدير بالذكر أن أغلب الدول المتميزة في أنظمتها التعليمية تعتمد بشكل كبير جدا على التعليم العام كأساس للاستثمار في الكادر البشري لديها، فالمدارس الخاصة قليلة جدا ولا تعتبر مؤسسات رفيعة المستوى ينضم إليها علية القوم أو تقوم على طبقية بحتة في المجتمع.

الجودة المتواضعة للتعليم العام تدفع كل أسرة إلى التفكير فيما ستقوم بالتضحية به في المدرسة التي يتم اختيارها. فهل ستتم التضحية بالهوية العربية حتى يلتحق الابن بمدرسة عالمية تحترم عقله لكنها تتحدث الإنجليزية؟ أم سيتم تفضيل اللغة العربية لكن في مدارس تعتمد في مجملها على وسائل تعليمية قديمة؟ أو هل يكمن الحل في مدرسة قوية أكاديميا لا يختلط بها الطالب إلا مع طبقة مجتمعية معينة ولا يتعلم احترام الأوجه الثقافية المتعددة لوطنه؟ أم في حال تم تشخيص ابنهم بصعوبات تعلم أو أي إعاقة فتنحصر الخيارات المتاحة أمامهم تلقائيا بمدرسة أو مدرستين كحد أقصى؟ كل ولي أمر في السعودية يضطر لاتخاذ هذا القرار الصعب ولحساب مدى الخسارة التي سيواجهها في استثماره في تعليم أطفاله.

كل هذه الأسباب تشكل "فاتورة" غالية الثمن ندفعها بسبب عدم استثمارنا في العقول بشكل يحترم أفضل المعايير العالمية. وللأسف يضطر الكثير من الخريجين لدفع هذا الثمن عن طريق البطالة أو الالتحاق ببرامج تأهيلية وتحضيرية بعد التخرج لمحاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه.