الأفلام المستقلة، أي التي لا تتبع لشركات الإنتاج الكبرى في هوليود، يجب البحث عنها، لأنها للأسف لا تحظى بالدعم الدعائي الهائل الذي تتمتع به أفلام الشركات الكبرى. داخل هذه المجموعات تعثر على أفلام مبتدئين مبدعين ومتمردين على أصول السينما التقليدية. باختصار؛ في السينما المستقلة تعثر على سينما المستقبل. من هذه الأفلام فيلم "الكاتب الشبح" للمخرج البولندي الفرنسي الشهير ROMAN" POLANSKI". يعرض هذا الفيلم في عدد محدود من صالات السينما العالمية، ولكنه يحظى باهتمام نقدي ومتابعة، ربما بسبب شهرة مخرجه الفائز بالأوسكار على فيلمه الرائع ""THE PIANIST.

شخصيا، أعتقد أن المخرجين غير الأميركيين الذين يعملون في السينما الأميركية يمتازون بامتيازات خاصة. بالتأكيد أن التميز الفني والإبداع هما مفتاح السوق الأميركية، ولكن ما أعنيه هنا هو أن المخرجين من خارج أميركا، خصوصا أولئك القادمين من خارج أوروبا الغربية، لديهم تجارب استثنائية لم يمر بها أغلب المخرجين الأميركيين من نوع التجارب من أنظمة الاستبداد والاعتقال على قضايا الرأي والحروب الداخلية وانفلات الأمن وكثير من القضايا التي تحدث باستمرار في دول الاستبداد. هذه التجارب خرجت على أيدي عدد من المخرجين الكبار ومنهم مخرجنا لهذا اليوم رومان بولنسكي. في أحد الحوارات الجانبية، بين أحد المخرجين الأميركيين الكبار ومخرج روسي هارب من قمع السوفييت، في حفل أوسكاري كبير، قال الأميركي: "لا تنس أنه تقريبا لا أحد من هؤلاء المخرجين أمامك يملك تجربة مشابهة لتجربتك مع الاستبداد، لا تنس ذلك".

يمكن تلمس هذا الخيط في مجموعة من أعماله مثل THE PIANIST 2002، الذي قدم فيه إحدى صور فظائع النازيين في بولندا، ومثل عمله الرائع DEATH AND THE MEDIAN 1994، المقتبس من مسرحية لأحد الأدباء الفارّين من حكم بوتشيني الاستبدادي في تشيلي. لنا مع هذه الأعمال عودة في المستقبل، ولكن من المهم تمييز هذا الخط في السينما الأميركية. هذا الخط يعوّل عليه سينمائيا وفنيا باعتبار أن موضوعه هو الآخر والمختلف والغريب. الفن في عمقه هو حالة انفتاح على كل هذه الأشياء، هو بوابة سلمية وهادئة على الآخر الذي لا يمر للذات بسهولة عبر الممرات السياسية والاقتصادية. حين تصبح الساحة السينمائية الأميركية مأوى للسينمائيين من جميع أطراف العالم فإن هذا يجعل منها بيئة مرشحة بقوّة لتمثيل هذا العالم.

أحد الأعمال المعبرة عن هذا الخط فيلمنا هذا اليوم "كاتب الأشباح" وهو عمل يقدم قصة كاتب يطلب منه، وبعرض مغر، أن يكمل السيرة الذاتية لأحد السياسيين البريطانيين، ومن خلال عمله على هذه السيرة ينخرط في سلسلة من الأحداث والمتابعات التي تكشف خبايا السياسة وفساد السياسيين، كما يقدم العمل نقدا للحكومة الأميركية التي لا توقع على عدد من اتفاقيات حقوق الإنسان. الفيلم مأخوذ من رواية، وتولى المخرج نفسه كتابة النص السينمائي لها. من هذه الناحية يعد العمل عملا جريئا ويحمل قضية حقيقية استطاع المخرج أن يبث من خلالها روحا متمردة ونقدية، روحا تمد نظرها إلى مساحات أبعد وأكثر عمقا. قد يرى البعض أن العمل يعد نخبويا ولا يقترب من المشاهد العادي، ولكن حبكة اللغز الذي يتابعه الكاتب يعتبر عنصرا مشوقا يدخل في دهاليز السياسة وخبايا الصراعات الداخلية. الفيلم يحكي حكاية كاتب تم القذف به في عالم السياسة ليحكي قصة أحد رموزها ليواجه وبشكل حاد تناقضات تقلب حياته رأسا على عقب. من أهم إشكالات هذا الاقتراب من عالم السياسة أنه لا يسمح لك بأن تكون مراقبا فقط. ما يحدث هو انخراط ضروري، وأحيانا بدون إرادة، إلى اللعبة السياسية ذاتها لترتبك بذلك هوية الكاتب بين الراصد المراقب المحايد وبين عضو الفعل والحركة والتنفيذ. من هنا تبدأ صورة جديدة للسياسي الأول ليخرج من صورة الجشع الطامع في السلطة والمال إلى كونه باختصار شخصية لم تعد تملك إمكانية متعة المراقبة من بعيد. أيضا يبدو هذا الكاتب فعلا كشبح يطارد كل سياسي. إنه التاريخ الذي سيثبت صورة معيّنة لهذه الشخصية السياسية. يشتغل السياسيون عادة بالخلود والمجد ويقلقهم ماذا سيقول عنهم التاريخ. باختصار هم مشغولون بكاتب ما سيدون للتاريخ وللأجيال القادمة من هو هذا الشخص. هذا الكاتب إذن هو حقيقة في داخل كل شخصية عامة، وربما كان من الأسهل إحضار هذا الكاتب ليبدأ في كتابة التاريخ تحت عين السياسي وبإشرافه. لكن المفارقة التاريخية الكبرى أن التاريخ يستعصي على كل الأيادي التي تريد السيطرة عليه. إحدى علامات هذا الاستعصاء هي اللعنة التي تطارد الكتاب لكي يكونوا دائما مختلفين وشكّاكين وقلقين مما يروج له على أنه الحقيقة النهائية.

الفيلم فاز بجوائز أوروبية حتى الآن وليس من المتوقع دخوله بقوة في سباق الأفلام الأميركية، ولكنه يبقى في رأيي أحد الأفلام التي تطرح قضية مهمة من خلال عمل فني متقن. هذه النوعية من الأعمال هي التي تحقق توازنا مهما في الساحة الفنية المغرقة بالأعمال منخفضة المستوى. ولنا عودة لأعمال أخرى من هذا النوع ومع ذات المخرج البولندي بولنسكي.