الحياة عالم دؤوب، وصرخة سير لا تعرف السكون والسكوت.. والركون والانكفاء.. مهما كانت انحسارات الضوء.. وبكائيات الفقر، وانكسارات الرحيل.. عجلة فولاذية تشبثت بحديدية الزمن الموغل في الماضي السحيق.. وحاضر صبح لا تباين بينهما كما عند امرؤ القيس.. عجلة تطوي الزمن كما تطوي فصول الدراويش.. وروايات الجدات فاتنات الأمس، ساعة صاخبة في وجه شاعر يكتب الحب بحرا يمليه الموج، والنورس والغروب.. قلب ينبض للحياة، أعراف الكلمات وتقاليد العبارات، حكايات، وقصص، تقص السنوات على تجاعيد وجوه تنغمس في المال حبا جما.. حتى علاقتهم الإنسانية أضحت للمادة والمال هو الشرعية المطلقة في إصدار أحكامهم على الناس، وللناس.. زحمة رغم الفسحة.. قلق رغم الهدوء.. تلبَس رغم السكينة.. تشدد رغم السعة.. عجبا لهم ومنهم..
تناسوا أن للحياة صوتا آخر، ينافي واقعهم الرتيب الجلف.. هناك حيث الهجرة قسرا في ليلة القرية تحت زخات المطر.. حيث خُيل لي أن قريتي فاتنة المساء.. تبحث عن ضوء اللحظة؛ كي ترى كل الوجوه في ثنايا البرد والمطر.. اللحاف، وسعال جدي، وقطط تلاحقها؛ كي تجد دفئا في "مزوم" العمة صالحة.. أو مطبخ جدتي بين أكياس الذرة، وأحلام الليلة الشاتية... ولثغة القرية تزينها حديثها العذب.. يتناهى لأسماعي معزوفات الناي تدغدغ أحضان طبيعة بِكر.. ومقطوعة يشدو بها ذاك الراعي عند حافة الوادي. الناي المكسور صداه يملأ الوادي حبورا.. تصادقه حقول، وجبال، وسنابل القمح تسبح بحمد ربها العظيم.. هناك تأخذني السواقي، وأصوت الطيور.. الطفشة للحماية من الشمس.. والمنديل الأصفر يزين رؤوس نساء الجبال، ومرتفاعاتها الشاهقة.. مزارعها المدرجة تهاجر بي خلف روايات قهرت المستحيل، وكونت صداقتها مع الزمن.. سنابل الذرة الحمراء، والبيضاء، والدخن تزاحم خلجات نفسي في إلحاح.. وأخالني أجيب عن سؤال يلح في أذني وطريقي المتعب المنهك هل مازال في السراج بقية؟!
نعم هناك حيث أبي: سجيته، وطيبته ومزارعه ولحافه الدريهمي!!.