أكتب اليوم من أذربيجان، حيث شهدت العاصمة باكو توقيع أول اتفاقية مع مجلس التعاون، تضع آلية للمشاورات والحوار، على جميع المستويات، حول القضايا السياسية والاقتصادية والثقافية. وسبق التوقيع على مذكرة التفاهم في 12 يونيو لقاءات مع كبار المسؤولين في أذربيجان، بمن في ذلك رئيس الجمهورية إلهام علييف، ووزير الخارجية إلمار محمدياروف.
هناك قواسم كثيرة بين أذربيجان ومجلس التعاون، واهتمامات ومصالح مشتركة، ولكن علاقاتهما الفعلية لا تعكس ذلك، ومن هنا جاء هذا الاتفاق لترجمة تلك الإمكانات إلى واقع ملموس.
من الناحية الاقتصادية، أذربيجان ودول المجلس من المنتجين الرئيسيين للنفط والغاز، وتتمتع بفوائض ضخمة تبحث عن مجالات مثمرة لاستثمارها، ولديها خطط تنموية طموحة لتحسين مستوى معيشة مواطنيها.
ومثل مجلس التعاون، تعيش أذربيجان في جوار مقلق ومضطرب. وتقع بين ثلاث قوى متنافسة: إيران في الجنوب، روسيا في الشمال وتركيا في الغرب، وإلى الغرب تقع كذلك أرمينيا، وهي دولة صغيرة ناصبت أذربيجان العداء منذ استقلالهما من الاتحاد السوفيتي، واقتطعت من أذربيجان إقليم "ناغورنو كاراباخ"، الذي يشكّل نحو 20% من أراضيها، ونصبت فيها دويلة تابعة لم يعترف بها أحد. وربما كان التنافس الروسي الإيراني على أراضي أذربيجان أهم عامل في تاريخها الحديث. وانظر إلى "معاهدة جوليستان" التي وقعتها روسيا وإيران في عام 1812 حيث اتفقتا على تقسيم أذربيجان التاريخية إلى قسمين: الجنوبي منهما تحت سيطرة إيران، والقسم الشمالي تحت سيطرة روسيا.
ولم تتمكن أذربيجان من نيل استقلالها من روسيا إلا في عام 1991، بعد (180) سنة من معاهدة جوليستان، وبعد فشل عدد من المحاولات. ففي عام 1918 استغلت أذربيجان انهيار القيصرية الروسية، معلنة استقلالها وتأسيس "جمهورية أذربيجان الديموقراطية"، ولكن تلك الدولة المستقلة لم تدم سوى عامين، حيث قرر سادة موسكو الجدد القضاء عليها وإعادة ربط أذربيجان بروسيا ضمن "الاتحاد السوفيتي"، واستمر ذلك حتى عام 1991 حين انهيار الاتحاد السوفيتي بدوره وأعلنت أذربيجان استقلالها.
أما أذربيجان الجنوبية فقد كان حظها أسوأ، إذ ظلت تحت الحكم الإيراني إلى اليوم، وإن كانت هناك فترة وجيزة تمتعت فيها بالاستقلال خلال الحرب العالمية الثانية، حين تم تأسيس "حكومة شعب أذربيجان"، وعاصمتها تبريز. وفي حين دعم الاتحاد السوفيتي الدولة الجديدة، عارضتها الدول الغربية. وفي إطار التوافق الذي تم لدى نهاية الحرب بين الحلفاء الغربيين والشرقيين، وافق الروس على إنهاء استقلال الدولة الجديدة أمام إصرار الغرب الذي سعى إلى الحد من النفوذ الروسي في إيران وتعزيز سلطة شاه إيران.
واليوم يعيش معظم الإذريين في الجزء الجنوبي من أذربيجان التاريخية، التابع لإيران. ويقدر بعض المسؤولين عددهم هناك بنحو (30) مليوناً.. ثلاثة أضعاف سكان جمهورية أذربيجان. ومع ذلك، فهم ممنوعون من التحدّث بلغتهم أو التعبير عن ثقافتهم المتميزة. وتظل الوحدة الأذرية بين الجنوب والشمال حلماً بعيد المنال، إلا أن الأذريين يأملون أن تبدي إيران مرونة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، خاصة حقهم في التعبير الثقافي واستخدام اللغة الأذرية.
وتعيش جمهوية أذربيجان (الشمال) اليوم في قلق من جيرانها، في حين تحاول استعادة أراضيها التي تحتلها أرمينيا بالطرق السلمية، معتمدة على قرارات مجلس الأمن التي أكدت تبعيتها لأذربيجان وطالبت أرمينيا بسحب قواتها منها، ومع ذلك فقد أحبطت روسيا، التي تعلن حيادتيتها في الأمر، الجهود لتنفيذ قرارات مجلس الأمن بتسليحها لأرمينيا. ويشير المسؤولون في أذربيجان إلى أدلة على دعم إيران أيضاً لأرمينيا في هذا النزاع، وذلك بالإضافة إلى تدخل إيران في الشؤون الداخلية لأذربيجان نفسها.
وعلى الرغم من مشاغلها الأمنية، فإن أذربيجان اليوم مجتمع منفتح وديناميكي، يتمتع بالاستقرار والانسجام الاجتماعي والنمو الاقتصادي السريع، مما يجعلها نموذجاً إقليمياً ناجحاً يثبت فوائد الانفتاح الاقتصادي وحرية التجارة. فخلال السنوات العشر الماضية، كان أداء اقتصاد أذربيجان مميزاً، وتضاعف حجمه عشرة أضعاف، من (10) مليارات دولار فقط في عام 2003 إلى (100) مليار دولار في 2013. ومع أنه ما زال اقتصاداً صغيراً مقارنة بالاقتصاد الخليجي الذي يتجاوز حجمه (1.5) تريليون دولار، فإن أذربيجان تمثل سوقاً مهمة، فعلى الرغم من إرثها السوفيتي، فإنها تشجع الاستثمار الأجنبي وتبحث عن شركاء موثوقين للاستثمار.
ولكن على الرغم من الإمكانات الواعدة، فإن حجم التبادل التجاري بين الجانبين ما زال محدوداً، ولكن ما هو مشجع هو نموه السريع، حيث قفز من نحو (5) ملايين دولار في عام 2000، إلى (164) مليون دولار في 2012، وبهذا المعدل قد يصل بضعة مليارات دولار خلال العقد القادم،
ولهذا فإن الاتفاق بين مجلس التعاون وأذربيجان يهدف لتصحيح هذا الوضع، والاستفادة من الفرص التي تقدمها ظروفهما المتشابهة، وتحقيق مصالحهما المشتركة، الاقتصادية والسياسية والثقافية.
فبالإضافة إلى التجارة، تقدم أذربيجان فرصاً أكبر في الاستثمار، خاصة في الصناعات المتعلقة بالنفط والغاز، وتنمية البنية التحتية، والسياحة، وبالإضافة إلى ذلك، ونظراً إلى توافر موارد مالية كبيرة لدى الجانبين، فإن ثمة مجالا للاستثمارات المشتركة داخل المنطقتين وخارجهما. وهناك عدد من الأمثلة الناجحة لهذه الشراكات بين المستثمرين في الخليج وأذربيجان، والكثير من الفرص التي يسعى الجانبان لاستغلالها.
وأخيراً، من المهم النظر إلى الاتفاق الخليجي الأذربيجاني في سياقه الأكبر، فالجانبان يتطلعان لتأسيس علاقات أعمق وأوسع بين مجلس التعاون ومنطقة القوقاز التي تُعتبر أذربيجان مفتاحاً لها، لإعادة تشكيل الروابط الاقتصادية والسياسية والثقافية بينهما، وتأسيس حوار استراتيجي يقوم على التشاور والتنسيق بصفة منتظمة في القضايا السياسية، وتعزيز الاستثمار والتبادل التجاري، وتشجيع التواصل الثقافي، بعد قرون من الانقطاع بسبب العزلة التي فرضتها روسيا على هذه المنطقة.
وسيعقب اتفاق أذربيجان اتفاقات مشابهة في المنطقة، مع جورجيا وأوكرانيا ورومانيا.