يمكث العرب كثيراً في الماضي، ويتعلقون في حالة وجدانية مفرطة بالتاريخ الذي لم يعايشوه، ولكنهم يقرؤونه عبر الكتب التي تبالغ وتكتب بمزيد من العاطفة، وينحاز الفرد العاجز والفاشل إلى الاعتداد بوالده أو جده أو أسرته أو قبيلته، المهم لديه هو أن يجد مشجباً يفتخر به أمام فشله مما يحقق لنفسه سلاماً داخلياً، وهكذا هم العرب جميعاً أقواماً وأفراداً يركنون إلى التاريخ يستخرجون منه أمجادهم بما يحقق لهم الرضا أمام عجزهم في الحاضر عن مواكبة العصر وأمام تخلفهم قياساً بتقدم الأمم الأخرى.
وما لم يتخلّ العرب عن خاصية الركون إلى الماضي وسرد ما كان من الأمجاد فإنهم سيبقون عالة على أنفسهم ولقمة سائغة لغيرهم.
الولايات المتحدة الأميركية هي أفضل مثال على دولة تتصدر دول العالم، وهي بلا تاريخ سابق أو ماض مشرف، وإنما هي تجربة بشرية ومغامرة إنسانية قادت إلى تشكل هذه الدولة من أعراق وديانات ولغات متعددة، لكنها جميعاً انصهرت في مصلحة مشتركة وأهداف واحدة على نحو جعلها تقود العالم المتحضر.
وفي المقابل فإن دولة عربية مثل مصر تركن في زيادة دخلها القومي إلى تاريخ ولى وعلى أحجار تقف شاهدة على حضارة فرعونية عريقة، وكان على مصر أن تجعل البراعة التاريخية حافزاً لحاضرها، لكن ما يحدث هو عكس ما يجب، حيث تعاني مصر من ترهل بيروقراطي يضغط بثقله على الخدمات وعلى البنية التحتية وعلى المزاج العام للمواطن المصري.
الناس في بعض البلاد العربية ليسوا على وفاق مع معظم الأنظمة الحاكمة لأنهم يعانون من غياب العدالة، ومن هنا يتم اختراق الأنظمة، وتشيع الواسطة والمحسوبية، فالقوانين الموضوعة لا تحترم لأنها شكلية ولأنها لا تطبق على الجميع، وهي انتقائية بحسب الخطوة والواسطة والمكانة، ومن هنا فإننا نلحظ حجم التدمير والحرق والتكسير للخدمات والمرافق العامة في ثورات الربيع العربي لمجرد أن الفاعلين يعتقدون أنهم بفعلهم هذا ينتقمون من الحكومة بما يؤكد أن غياب العدالة هو الذي يدفع الناس لتدمير الممتلكات العامة لمجرد شعورهم أنها حلال الدولة، وكان الأولى أن يتكرس الشعور بالمواطنة والشعور بأن هذه المرافق هي ملك للناس لو ضاق الفارق بين الحكومة والناس.
ها نحن نشتم أميركا صباح مساء ونحن نرفل في نعيم صادراتها من السيارات والطيارات والدراجات والأسلحة الخفيفة والثقيلة والوجبات الجاهزة والمشروبات الغازية.
نشتم أميركا صباح مساء ونحن نقف متطابرين أمام سفاراتها لنحظى بتأشيرة زيارة أو علاج أو دراسة، وهذه الازدواجية سببها الشعور المتأصل بالتفوق الماضوي والشعور المتنامي بالأفضلية رغم أن الحاضر يكذب هذا المخيال، لكنه خدر التاريخ والنوم المستغرق على وسادة الماضي الطويل والبعيد، وهو الماضي الذي لا ينسجم إطلاقاً مع معطيات الحاضر الذي يتطور علمياً وصناعياً، ويتغير هذا المعترك بشكل يومي، فالمعامل والمختبرات والمصانع الغربية تسخر ساعاتها للتنافس والإبداع في كل ما يخدم البشرية ويحقق لها الرفاه ويمنحها المزيد من التسهيلات التي تتتابع يوماً بعد الآخر عبر التحولات الإلكترونية والقفزات اللافتة في المجال التقني الذي صار العالم بفضلها – حقيقة – قرية كونية واحدة بحيث صار التواصل والحوار بين الناس يتم في يسر وسهولة غير مسبوقة. وهكذا صار يتواصل شاب منسدح في استراحة في إحدى حواري الرياض مع زميله في دورم الجامعة في إحدى ولايات أميركا، ومع صديق آخر في صعيد مصر أو قرية مغربية نائية، لكن مع كل هذه المنتجات الإلكترونية الغربية التي أبدعها غربيون يمكنك أن تجد من شبابنا العرب من يستخدم هذه التقنية لمجرد شتم أميركا التي يدرس أو يتعالج أو يتمشى في عديد ولاياتها، وأظن أنها حيلة الحاسد الذي عجز عن المواكبة أو التقليد، وصار يطل من نافذته على الماضي الذي يعلوه الغبار.
أقدمت أميركا على ضرب اليابان بالقنبلة النووية، فدمرت وأحرقت البشر والحجر، لكن كانت هذه الضربة فأل خير على اليابان التي كانت تصول وتجول وتحارب وتبطش، لكنها أفاقت بعد هيروشيما لتنكفئ على نفسها وتخرج المارد المدفون في دواخلها وتلتفت إلى إعادة البناء، بناء الوطن وبناء الإنسان، وبدأت في التقليد والمحاكاة، ثم اختطت لنفسها خطاً إنتاجياً مغايراً وممعناً في الصغر، فصارت صناعتها مختلفة ومتميزة ومطلوبة، وصار لليابان نموذجها الصناعي الفارق والمختلف.
يقول نوبواكي نوتوهارا في كتابه (العرب في عيون يابانية) إنه طالما واجهه أصدقاؤه العرب بهذا السؤال: (دمرتكم أميركا بقنبلتين نوويتين في هيروشيما ونجازاكي فلماذا لا تكرهون أميركا؟).
ويرد مجيباً عن هذا السؤال المستمر: لقد استعمرنا ودمرنا شعوباً وبلاداً كثيرة في الصين وفي كوريا وأوكينادا، وصار علينا أن ننتقد أنفسنا ثم نصحح أخطاءنا، أما المشاعر تجاه الغير فإنها لا تصنع مستقبلاً، وإنما هي مسألة شخصية ومحدودة).
تعالوا بنا نلتفت إلى أنفسنا ونهتم بشؤوننا الداخلية ونطور من أدواتنا لنلحق بالعالم المتقدم من حولنا وأن نتوقف عن المخدرات التي نتعاطاها عربياً النوم على وسادة التاريخ.. وشتم أميركا.