الاستحواذ على العقول، ليس مجرد قمع للحريات قابل للأخذ والرد، والتبرير بمختلف الظروف الطارئة، بل هو قضاء على قوة السيطرة على الذات والواقع والمصير، وصولاً إلى صناعته وهو ما يحدث في توجيه وإزاحة القضايا عن غير هدفها الصحيح، من خلال طرح مشكلات قناع وليست حقيقة لا تعدو كونها نتائج وأعراضًا وليست أسبابا، أو أصولاً. إن توجيه الفكر هو من أهم القدرات التي يتم توجيهها وتجييرها وتحريكها ومن ثم تغليفها بكثير من المسميات التي تخدم الغرض منها وهو الركن الأهم في منظومة الاستحواذ الأخطر- أي هدر الفكر والوعي والطاقات لأنها تُصيب حيوية المجتمع ونماءه في الصميم. إذ هي تتركه في حالة الانكماش وفقدان المناعة تجاه الحركات الفكرية المتنامية التي تصب في وعيه من كل مكان كما تحرمه من فرص الفهم والمشاركة الحقيقية في صناعة الحياة أو المواقف أي أنها تهمشه كحد أدنى، وتؤدي إلى استباحته واستتباعه كحد أقصى، بدون أن يكون له القدرة على المقاومة والفعل ورد الفعل.

إن صحة أي مجتمع ونماءه هي المقابل الواقعي لحيويته وقوته والتي بالضرورة تتوقف على حيوية فكره، ويقظة وعيه، وقوة طاقاته وحسن توظيفها. لا يمكن أن نختلف على أن قوة المعرفة هي أساس قدرة المجتمعات راهنًا، وأن درجة الوعي ويقظته هي الضامن للوعي المجتمعي وفاعليته واتساع أفقه، وتكمن أهميته في استيعاب الحاضر وقضاياه، واستشراف المستقبل المرجو والمتوقع بكل متطلبات ومن ثم إمكانية صناعته وتجسيده. أولم يصبح من البديهيات أن المجتمعات التي تُقَصِّر أو تفشل في توظيف فكر طاقاتها البشرية الحية، تتقهقر إلى مواقع الشعوب المستغنى عنها؟

إن الاستحواذ على الفكر والوعي والطاقات بتوجيهها ضمن إطار ضيق، وما يتضمنه من فقدان مناعة، يجعل المجتمع جثة هامدة، وبالتالي عديم القدرة على مقاومة العصبيات واستفحالهما.

لا يمكن لعصبيات أن تستفحل وتستنزف قوى المجتمع وموارده ومؤسساته، إلا من خلال هدر الفكر والوعي عبر صناعة محاربين للأفكار تقتصر مهمتهم على الهجوم على كل جديد لمجرد محاربته ليس أكثر من ذلك. لهذا تشكل ثلاثية الاستحواذ على الفكر والوعي وصناعته إعلاميا الحالة الأعم لهدر الإنسان، وبالتالي كيان المجتمع ذاته. وتكمن خطورتها منهجيًا في كونها تجعل المجتمع والفكر الجماعي يظل خارجا ومهمشاً عن كل ما يمس متطلباته الحالية كما أنه يشكّل الشرط المسبق لتهيئة التربة الخصبة لدوام الاستبداد. ومن ثم تصبح مقاومة الأفكار أو تقبلها أشبه بمحاربة فزاعة الحقل.