في المجتمعات المحافظة يتبدّى عسر التحوّل والتغيير والاندماج بأبجديّة العصر، فالتغيير لا يأتي إلا في خطوات بطيئة متثاقلة متعثرة وعلى حذر وكثيرٍ من التوجّس من الطارئ الغريب الذي لم يُعهَد، ويشكّل انقلابا في الحياة العاديّة التي تغطّ في السكون وتقلقها الحركة وتبدّلُ المواضع.

الممانعة والوقوف بالمرصاد والرفض المبدئي أسلحةٌ جاهزة تحت عناوين مختلفة من الحرص على نقاء الهوية الثقافية والخوف من الذوبان في "الأجنبي" وبالتالي التبعيّة له والاستجابة لأجندته.. إلى الحفاظ على الخصوصيّة المجتمعيّة من بناء قارّ على عادات وأعراف وتقاليد يُراد لها الاستمرار ويُخشَى عليها من الزوال رغم أن بعضها لها حضور مظهري لكنّ هذا الحضور سرعان ما يتحلّل لحظة اصطدامه بتيّار الوقائع اليوميّة، فيجري احتيال الحلول المراوغة وإجراءات الترقيع التي تحاول درء السيل وردعه بعباءة؛ فينجلي الموقف عن أوضاع كاريكاتوريّة تشير إلى فداحة المفارقة بمواجهة خاسرة بأكلاف مادية ومعنوية في سبيل ترسيخ وضعٍ ما عاد يتلاءم مع حضارة العصر.

تلك الممانعة، ولها الصوتُ العالي الغالب، تعمل بمثابة مكابح تبطِّئ من مسيرة التغيير والتحوّل، وهذا البطء بمقياس كمّي يؤول إلى مسافات وسنوات. ما ترنو إليه وتهفو إلى تحققه الآن، يحتاج زمنا طويلا ويقتضي صراعا مريرا حتّى يتم الاقتناع به وتقبّله. هنا يطفو تبرير التدرج والتمرحل وعدم أخذ المجتمع على حين غرّة، وهو حجّة لاستمرار الأوضاع على ما هي عليه، رغم أن التجربة العمليّة تقود إلى نفي هذا التبرير. اكتبْ في صفحة ما طرأ على حياتنا وما تبدّل فيها في الشأن العام وفي الشأن العائلي، وقابِلْ هذه الصفحة بحجم الممانعات الضخمة التي ثارت وانعقدت لها السماء بالدخان، ثم سوف تكتشف "مفارقة الكاريكاتور". الممانع أوّل من يركض برجله عندما تهدأ الأوضاع ويتبيّن أن مخاوفه ليس لها مكان. كما أن كل جديد بقدر جوانبه الإيجابية فله أعراض سلبية لا فكاك منها. تجربة التعامل مع الجديد ونواتجها هي ما يحكم الجميع؛ متقبّلاً أو ممانعاً. فالرفض المبدئي لا يجدي. الممارسة لها السلطة، وهذا ما يُفهم، ولكن بعد حين!!

إذاً، التغيير حاصل وهذه سنّة الحياة.. غير أن للمسألة وجهاً آخر فيما لو ظلّت المراوحة في هذا المنطق الذي يراهن على الزمن وحسب، وأُعطيتْ الساحة لصوت الممانعة يهدر فيها ويُستمع إليه، ويصبح المجتمع بين فكَّيْ تقييداته في الأسوأ أو مراجعاته في الأحسن. هذه الوضعية تضيّق من فسحة التراكم الذي يصنع التحوّل والانتقال. ذلك أن انعدام التراكم هو ما يصنع الاختلال والتراجع في لحظة حسابات مختلطة. وربما السينما أفضل دليل على هذا التراجع، فبعد انفتاح للعروض السينمائية العامة بما يبشّر بالتحوّل في الذهنية؛ نفاجأ بإغلاق هذا الملف. ربيع قصير كان من الممكن أن يمتد لو توفّرتْ الجرأة والحسم.