بعد الثورات العربية وفوز أحزاب دينية بالرئاسة، ثم ارتفاع وتيرة الصراع في الداخل لديهم بومضات دينية، وبعد أن احتدم الصراع في سورية ودخل حزب الله الطائفي بمعونة من إيران المذهبية على الخط، ثم مطالبة الجماعات السنية في داخل البلدان الإسلامية بالجهاد الديني، مع استغلال بعض الطوائف والمذاهب أحداث سورية لصالحها أي أنها تقف مع هؤلاء أو هؤلاء بحسب مصالح المذهب أو الطائفة بلا اكتراث بالشعب السوري، ثم ظهور موجات الاحتساب والتكفير وإقامة محاكمات باسم الدين بطريقة فجة وتعبوية كما حصل مع من أنكر رواية في البخاري؛ كل هذا يوحي باشتعال المنطقة اشتعالا طائفيا أو دينيا.. أي أن الحروب ستصبح دينية مقدسة، ونعود بذلك إلى نفس الحالة التي كانت في القرون الوسطى، أي صراعات دينية تنتهي إلى لا شيء، فلم يحصل أن انتصر معتقد على آخر على مر التاريخ. غاية ما هنالك أن تزيد الرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها معتنقو الدين الفائز لا غير، أما الدين نفسه فلم ينتصر وهذا ما يوحي أن كل تلك الصراعات سياسية بغلاف ديني..

لكن ما يعنينا هنا هو أنه وبعد هذا التطاحن الديني ستتجه المنطقة إلى العلمانية لا محالة، حكومات أو شعوبا، سنية أو شيعية، كردة فعل على توظيف الدين لا الدين نفسه، وهذا ما يجب التحذير منه، فكل ما يحصل هو تسريع لخطى العلمانية سواء العلمانية في الداخل الشيعي أو السني، وسواء أدرك المتصارعون ذلك أم لم يدركوه، بل سواء اهتموا به أم لم يهتموا ولا يعنيهم إلا مصالحهم الآنية، خاصة إذا اكتشفت هذه الشعوب أنها لم ولن تستفد شيئا منها، إضافة لعدم وجود إسلام تنويري حقيقي يمكن التحويل أو الانتقال إليه بعد فقد الثقة بذلك الدين أو الحزب المتصارع، إضافة إلى فشل الأحزاب الإسلامية الحاكمة المتوقع، سواء بسبب سياساتها أو مكائد خصومها، إضافة إلى اتجاه الأجيال الناشئة إلى الانفتاح، وهذا هو الأهم فالخطاب الديني لا تكترث به الأجيال الجديدة، وكل هذه العوامل تبعث على العلمانية، وإذا كان أولئك حريصين على عدم انتشارها فعليهم أن يتوقفوا عن خلق الأرضية التي تساعد على قيامها من الآن.

إن الحل الوحيد للخروج من هذا المأزق الديني الذي نمر به هو أن نعلن الرفض التام لتوظيف الدين واستخدامه من قبل السنة والشيعة، فهذا التوظيف هو بدعة العصر الكبرى، بل إنه أسوأ بدعة عرفها التاريخ الإسلامي، فهو أشنع من بدعة الجهمية والقدرية والجبرية والمرجئة، فهذه البدع لا تضر إلا أصحابها، أما بدعة توظيف الدين فتضر صاحبها وتضر الآخرين، وقل أن ترى شخصا يظهر الدين وهو غير موظف له، وإذا كنا قد حذرنا من الإلحاد وأن أرضيته هي فقدان الثقة بالإسلام وأحكامه وأنه لا بد من تجديده أو تجديد أحكامه الفقهية؛ لم يأبه كثيرون لذلك، وتصوروا أننا نستغل الإلحاد لتمرير التمييع كما يقولون إلى أن بدأ بالظهور فعليا، ثم بدأنا نبحث بطريقة مغفلة ساذجة عن أسبابه بادعاء أنه بسبب كتب الإلحاد.. فالآن نعيد نفس الكرة مع العلمانية فهي ستنتشر وستكون أكثر من الإلحاد لأنها تمر الآن بنفس المسار، ولأنها أخف منه وأسبابها أقوى، وعليكم أن تأخذوا العبرة ممن سبقكم، فأوروبا لم تتجه للعلمانية إلا بعد أن اكتوت بنار توظيف الدين، لا الدين نفسه.

ربما أن الحالة المتدهورة للفكر الديني لا تسمح بأن أقول إن قليلا من العلمانية يحمي من الكثير منها، كالتطعيم في الطب، لكن بما أننا لم نصل لهذه المرحلة بعد فلا أقل من أن نقضي على التوظيف وأن تعمل الآلة الإعلامية لكشفه، فهذا المصطلح لا نسمعه في وسائل إعلامنا، وإذا لم نسمعه فهذا يعني أنه سيمرر وسيستمر كثيرا وسوف تعتبر وسائل الإعلام تلك مغفلة أو متواطئة، وهذا التناول بهذا المصطلح (توظيف الدين) أولى من مصطلحات الصراع الطائفي أو الطائفية أو غيرها، ويجب ألا يتناوله الإعلام وفي مقصوده جماعات بعينها وإنما يتناوله كفكر، حتى ولو لم يستطع المشاهد معرفة من المقصود، بل هذا هو المطلوب، حيث يعرف تاريخ التوظيف وآليته وكيف ينمو وكيف ينتشر وكيف يجلب له الأتباع وكيف يتحرك أتباعه ونوعية الخطابات التي يظهرونها للناس.