في الحديث السابق، ناقشنا بعض التداعيات السياسية لنكسة الجيوش العربية عام 1967م، ووعدنا بمواصلة قراءة تداعيات أخرى لا تقل أهمية، على الصعيدين العربي والفلسطيني، على أمل أن تسعفنا هذه القراءة، في فهم ما يجري الآن من مبادرات، من أجل التوصل لتسوية سلمية للصراع العربي مع الصهاينة.
ركزنا في الحديث الماضي على تداعيات النكسة على الصعيد الفلسطيني، حيث لم يعد الفلسطينيون مجرد لاجئين في مخيمات الشتات، أو مواطنين ببقية الأراضي الفلسطينية، التي لم يشملها الاحتلال الصهيوني، إلى ما قبل نكسة يونيو عام 1967م، بل شركاء، بأهلية كاملة في صنع القرار السياسي المتعلق بمستقبلهم، وحقهم في تقرير المصير، وإقامة دولتهم المستقلة فوق التراب الفلسطيني.
التداعيات السياسية على الصعيد العربي، هي أعمق بكثير من تلك التي ارتبطت بالقضية الفلسطينية. فقبول القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، للتوصل إلى حل سلمي للصراع، واستقبال القيادات العربية للمبعوث الأممي، جورنار يارنج، على قاعدة التوصل لحلول سياسية، ومن ثم قبول مصر والأردن عام 1969، بمبادرة وزير الخارجية الأميركي، وليام روجرز، وما تبعها من مبادرات سلمية، دولية وعربية، عنت جميعا انتقالا جوهريا في طبيعة الصراع، مع الصهاينة.
فالفهم الرئيس للصراع، الذي ساد منذ وعد بلفور، لم ينظر للوجود الصهيوني على أرض فلسطين، على أنه مجرد احتلال لأرض عربية، بل بوصفه تهديدا مستمرا للأمن القومي العربي. فمصر على سبيل المثال، رأت أن عمقها الاستراتيجي، يمتد إلى أضنة شمال سورية، وشرقا إلى سلمان باك على الحدود العراقية الإيرانية، وجنوبا إلى حيث منابع النيل، وغربا إلى المغرب العربي. إن الوجود الصهيوني، على هذا الأساس، هو انهيار للعمق الاستراتيجي المصري شمالا وشرقا.
والحال هذا لا يختلف عن موقف بقية القيادات العربية، التي رأت في الصراع مع الكيان الغاصب، صراع وجود وليس صراع حدود. والخلاف كبير بين الموقفين، فالأول يستدعي مواجهة مستمرة مع المشروع الصهيوني، لا تنتهي إلا بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر. أما الموقف الثاني، فقد أملته موازين القوة بين العرب والصهاينة. وهو ميزان مختل استراتيجيا باستمرار لصالح "إسرائيل"، بسبب ما تلقاه من دعم مستمر من القوى العظمى.
بل إن هناك من يجادل أن قيام هذا الكيان هو في الأساس من صنع هذه القوى، وأنه في جوهره مشروع استيطان أوروبي، شبيه لما حدث من قبل في القارات الجديدة، وفي جنوب أفريقيا والجزائر. وإذا ما قرأنا الخارطة السياسية في الكيان الصهيوني، فإن اليهود القادمين من أوروبا الشرقية، والغرب ظلوا باستمرار قادة لإسرائيل. والخلافات بين السفارديين والأشكنازيين، هو الصورة المعبرة، عن طبيعة ما يفتعل من صراع بين المكونات القومية لهذا الكيان.
نكسة يونيو، نقلت مفهوم الصراع، إلى نزاع على الحدود. وما دام السلاح قد جرى تحييده، بعد معركة العبور، عام 1973م، حيث اعتبر الرئيس الراحل أنور السادات تلك الحرب آخر الحروب، فإن المنطق يقتضي الاعتماد على القوة الدولية الأكثر تأثيرا على العدو، من أجل استعادة الأراضي العربية التي فقدت في حرب يونيو. وكان ذلك تحولا آخر في العلاقة الاستراتيجية مع القوى العظمى، من تحالف مع السوفيت، إلى الانتقال للمعسكر الغربي.
والأبرز في هذا السياق، هو مفاوضات الخطوة - خطوة التي رعاها هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، ولاحقا المفاوضات التي جرت بين مصر والصهاينة، برعاية أميركية، بعد زيارة السادات للقدس، وتوجت بتوقيع معاهدة كامب ديفيد. وما كان لهذه المعاهدة أن تأخذ مكانها لولا الانتقال الاستراتيجي في طبيعة الصراع، الذي أملته على الأنظمة العربية نتائج نكسة 1967.
والحال هذا لا يختلف عن توقيع الأردن والحكومة الإسرائيلية لمعاهدة وادي عربة، وتوقيع منظمة التحرير الفلسطينية، بزعامة الرئيس ياسر عرفات لاتفاقية أوسلو، التي عرفت بمعاهدة غزة - أريحا أولا. وقد احتفل بتوقيع المعاهدتين، في حديقة البيت الأبيض في العاصمة الأميركية واشنطن.
التداعيات السلبية للنكسة، في العلاقات العربية - العربية، هي أن المفاهيم الجديدة للصراع، غيبت الحالة التضامنية بين العرب التي سادت منذ النكبة، والتي تمحورت حول استعادة فلسطين، واعتبار تحريرها مسألة وجود. كانت فلسطين قضية جامعة للعرب، وبتحول الصراع مع الصهاينة لنزاع على حدود، برزت بحدة التناقضات العربية - العربية.
دخل العرب في حروب داحس والغبراء، مع بعضهم البعض، في العقود الأربعة التي أعقبت توقيع معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل. احتل الصهاينة العاصمة اللبنانية بيروت، وحدثت نزاعات حدودية بين مصر وليبيا، والجزائر والمغرب، وتونس وليبيا، ومصر والسودان استهلكت طاقات الأمة ومواردها، وعطلت من مشاريعها التنموية وتقدمها ونهضتها. وكانت حرب الخليج الثانية عام 1990م، حين غزا العراق الكويت، هي الطامة الكبرى، والشرخ الأكبر في جدار الأمن القومي العربي. ولا تزال تداعيات هذا الحدث ماثلة أمامنا، حتى هذه اللحظة في أشكال أخرى.
هل من فسحة لإعادة الاعتبار لقضية فلسطين، كقضية مركزية جامعة للعرب، بما يحقق تماسك الأمة ووحدتها، ويفي بتطلعات الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة؟!