أحيانا كثيرة تكون الأفلام المستقلة استثنائية وتستحق المتابعة والتحليل. في العاصمة الأميركية واشنطن عدد من دور السينما المهتمة بعرض الأفلام المستقلة والاستثنائية. وبعد جولة مطوّلة في المدينة الفترة الماضية توقفت في أحد دور العرض لمتابعة فلم "Skin" الذي كان ملخص قصته كفيلا بإقناعي مباشرة باختياره كفلم الأسبوع، لي وللقارئات والقراء الأعزاء هنا.

الفلم مقتبس من قصة حقيقية وقعت أحداثها في منتصف القرن الماضي في جنوب أفريقيا. من المهم هنا أن نستحضر خلفية تاريخية عن جنوب أفريقيا ذلك الوقت، حيث كانت تعاني البلاد من التفرقة العنصرية المقيتة. كان المجتمع الجنوب أفريقي يحتوي على عدد من الأعراق المفصولة. البيض القادمون من أوروبا" الأفريكان" ومنهم كانت الطبقة الحاكمة والمسيطرة على الاقتصاد، والسكان الأصليون السود وفيهم كانت النسب الأعلى للفقر والجهل، وخليط من أعراق صغيرة هنود وآخرين يمثلون الطبقة الثالثة في المجتمع. في هذا الوضع الحساس حدثت قصة هذا الفلم، حيث ولدت ساندرا لينج، سمراء البشرة ولكن من أم وأب أبيضين!! الفلم كله يحكي كيف عاشت هذه الطفلة السمراء من عائلة بيضاء في هذا المجتمع المفصول والمشحون بالأحكام العنيفة تجاه الآخرين. كيف سيتعامل المجتمع الأبيض مع الفتاة السمراء التي تصنف رسميا بأنها من العرق الأبيض؟ وكيف سيتعامل المجتمع الأسود مع الفتاة التي تشاركه لون البشرة ولكنها ثمرة تربية وتنشئة عائلة بيضاء؟ هذه القضية أثارت إشكالا عميقا آخر وهو من هو الأبيض ومن هو الأسود. هل النسب هو من يحددهم، اللون، ملامح الوجه، الأنف، العين؟ ما هو المعيار الذي يمكن أن تستند عليه المحكمة في تقرير مصير هذه الطفلة.

يمكن أن نقول إننا أمام فتاة استثنائية تعرضت لحقيقة التمييز العنصري، فتاة تعرضت لوضع استثنائي حين يتركز التمييز على فرد لا يستطيع الاحتماء بجماعته الخاصة. في حالات التمييز العنصري يحتمي الفرد بجماعته الخاصة ويتشارك معهم ألم هذا التمييز. هذه المشاركة تخفف الكثير ضغط الظلم والأذى ولكن ساندرا لم تكن لديها جماعة تشاركها الألم، البيض رفضوها للونها المختلف والسود أيضا لأنها تحمل اسما أبيض وعائلة بيضاء. يمكن أن نقول إن ساندرا تحملت لوحدها ما تتحمله الجماعة الكاملة. ويا له من حمل ثقيل. كان المطلوب من ساندرا أن تعاني من التمييز العنصري ضدها بسبب لون بشرتها، وكذلك أن تحمل وزر العنصريين الذين تنتمي لهم بالاسم والعائلة. كانت حالة ألم مضاعفة ورغم انتمائها للجماعتين حسب المعايير المتعارف عليها إلا أنها كانت أيضا علامة طرد كل جماعة للآخر رغم أنه في كثير من تفاصيله شبيه وقريب وشريك.

ساندرا كانت علامة على تلك الحالة الغريبة بين جماعات البشر المسماة بالتمييز العنصري. ساندرا تدفعنا لنتراجع قليلا لنلقي نظرة على تلك الجماعات والفواصل التي تفصل بينها. تلك الجماعات التي تزرع أرضا واحدة وتتنفس هواء واحدا وتعجز عن العيش المشترك. كذلك ساندرا تدفعنا لنخطوا خطوات للأمام ونقترب أكثر للإنسان، لجسده وتفاصيله الدقيقة، لمشاعره لنرى التشابه الكبير بين مكونات الناس الصغيرة ورغم ذلك يعجزون عن العيش المشترك. كلا الوجهتين تعطياننا درسا واضحا: الطبيعة لا تفرّق الناس ولكنهم البشر ذاتهم هم من يقفون في طريق أنفسهم. هم من يزرعون كل ذلك الألم لأنفسهم. ساندرا كانت درسا لأهلها البيض، مفاده أن عنف التمييز العنصري قد طال أغلى ما يملكون. أن التمييز عنف وألم يضربان من يمارسه بقدر ما يضرب من يمارس عليه.

من خصائص التمييز العنصري الأوروبي، وامتداداته في العالم أنه مقنن ومكتوب ويدار بشكل معلن ومباشر وهذا ما يجعل قضايا مثل قضية ساندرا تسبب له ربكة وإشكالا عميقا. عدم وجود معيار دقيق لتحديد الأبيض من الأسود يعني أن التمييز العنصري لا يمكن أن يكون قانونيا. القانون يتطلب الوضوح والمعيارية الواضحة، التي تجعل من مطبقي القانون يعملون خارج اجتهاداتهم الشخصية. كان من السهل في بيئة أخرى أن يتم التعامل مع قضية ساندرا على أنها قضية شخصية فردية يمكن أن تحلّ على حده لكن في البيئة القانونية، حتى العنصرية منها، تمثل القضايا الفردية إشكالات عميقة قانونيا ونظاميا.

الفلم أيضا يطرح سؤالا عريضا حول التمييز العنصري اليوم. صحيح أن العالم تجاوز التمييز المقنن والصريح والمعترف به، ولكنه بالتأكيد لم يتجاوز كل أشكال التمييز بل إن هناك تمييزا مغلفا وخفيا ولكنه فعال ومؤثر. سؤال يطرح على كل المجتمعات التي يمكن أن نقسمها إلى قسمين كبيرين: الأول يراقب عمليات التمييز كل يوم ويوجد فيه آلاف الجمعيات والمنظمات المتخصصة في مراقبة أشكال التمييز بأشكالها، العرقية والطبقية والجنسية والدينية، في المقابل تقف مجتمعات كثيرة غير معترفة بوجود التمييز في داخلها رغم أنها تحتوي على أعلى معدلات التمييز بالمقاييس العالمية. هذه المجتمعات وفي مقدمتها المجتمعات العربية لا تزال تنكر وتخفي رأسها في الرمل عن هذه الحقائق المهمة.. الفلم إذن يخاطبنا بشكل أساسي ويريد أن يقول: انظروا فلعل شبيهات ساندرا بينكم كُثرُ.