لسنين خمس، ظل (أبو سالم) يزور تلك المقبرة المقفرة النائية على أطراف القرية بعيد إفطار اليوم الأول من رمضان، وحتى مع الظلام الدامس، ورغم مئات (النصب) على أطراف قدميه ومن حوله فما زال يعرف طريقه برابط وجداني يدله الطريق من المنزل إلى القبر. وكل الحياة لأبي سالم، ورغم مشارف السبعين، تختزل في شهر: ولد سالم ليلة العيد ومات مقتبل الشهر.

هذه هي الزيارة الرابعة بعد ليلة الدفن. وفي كل مرة يغادر أبو سالم منزله إلى هذا الروتين السنوي كان يعاهد النفس: ألا يجزع وأن يبدو متماسكاً وألا تصرفه الدموع على الدعاء لابنه الوحيد، وهكذا كان يصمد حتى ينهار حين يلامس القبر. بعض الأحزان لا تنطفئ بتقادم السنين وكل شيء من أبي سالم يضعف ويتضاءل ويضمحل ويخبو ويقل إلا من شيء وحيد: خزان الماء الذي ينساب من تحت الجفون الحارقة. خزان الذكريات الذي يفتح آلاف الصور المؤلمة لراحل ينام (الآن) في أقل من المسافة ما بين رأسه إلى قدميه. اثنان وعشرون عاماً من ذاكرة (الأمل) الحي تنام في قبر مقفر وهامد.

صورة الساعة الأولى من الحياة وهم يدفعونه عارياً إلى حضن أبيه. ألم الختان الذي كان يتمنى لو افتداه بقطعة من جسده. صورة الخطوة الأولى ماشياً وهو يتدحرج بين ضحكات أخواته الخمس. نشوة الفخر وهو يسمع لقبه الجديد (أبو سالم) ذات ليلة عيد لن تعود للأبد. صورة يديه وهو يلهو بلحية أبيه بين يديه طفلاً بين المنام واليقظة. صورة العام الأول من المدرسة التي كانت كلها ـ دواماً ـ للأب إلا من دفتر الانصراف. صور المراهقة والدلال الذكوري لولد بين أخواته الخمس. صورة سالم ضابطاً طياراً حين تخدعه الصور ببرواز اكتمال الحلم. كل صور الأحلام التي تنتهي بمجرد أن تكبر. كل صورة تذرف لها خزاناً من البكاء وهو منبطح على وجهه ومفترشاً قبر حلمه الذي لن يعود. فجأة يشم رائحة (سالم) كما هي ويسمع تماماً شيئاً من (نصف صوته) . هام يبحث بين اليأس والأمل عن ثقوب في قبر عتيق من سنين خمس. وبأعلى صوته: سالم.. سالم.. سالم.. هي رائحته تماماً لكنه لا يستجيب. نام على القبر: فجأة يشعر به نائماً من فوقه. يلتفت إلى الوجه. يشم ذات الرائحة ونصف الصوت. إنها عائشة، أخت سالم الكبرى، وابنة (أبو عائشة) لما بقي من الزمن، ومثل أبيها تزور كل صور الراحل بعد أبيها منذ سنين خمس.